حسين توفيق ... الثري الوطني نموذج لشباب مصر في أربعينيات القرن العشرين

حسين توفيق ... الثري الوطني
نموذج لشباب مصر في أربعينيات القرن العشرين
اضطرب الوضع السياسي في مصر بعد توقيع معاهدة 1936 ومحاولة سيطرة القصر ممثلًا في الملك الشاب "فاروق الأول" على الحياة السياسية في البلاد من خلال رجاله المخلصين "علي ماهر باشا" و "محمد أحمد حسنين" وتمكينه لأحزاب الأقلية ــ الهيئة السعدية، الأحرار الدستوريين، حزب الشعب ـ من السيطرة على الحكم وتنحية حزب الأغلبية ممثلًا في حزب الوفد عن السلطة التي دائمًا ما كان يفوز بها وباغلبية واضحة في ظل إنتخابات نزيهة.
كذلك كان دخول مصر في دوامة الحرب العالمية الثانية أن زاد من حدة الموقف خاصة وأننا طبقًا لشروط معاهدة 1936 أصبحنا مطالبون بأن نقدم كل العون للقوات البريطانية، وقد كانت محاولات رؤساء وزراء مصر تجنيب مصر ويلات تلك الحرب من خلال عدم إعلان مصر الحرب على قوات المحور التي ضمت "ألمانيا وإيطاليا واليابان" سببًا في تدخل بريطانيا بشكل سافر في فرض وزارة جديدة على الملك فاروق برئاسة النحاس باشا بعد أن قامت بحصار قصر عابدين واقتحامها له في 4 فبراير 1942، واقتحام السفير البريطاني "السير مايلز لامبسون" لغرفة الملك وتخييره بين التوقيع على وثيقة تنازله عن العرش أو إصدار أوامره للنحاس باشا بتشكيل الوزارة، ولابد أن نوضح أن رغبة بريطانيا في تشكيل النحاس باشا للوزارة ليس حبًا في النحاس أو حزب الوفد ولكنه كان تسعى لحزب قادر على أن يسير بالوضع الداخلي للبلاد بما يمنعه من الإنزلاق أكثر نحو التعاطف مع الألمان خاصة بعد خروج المظاهرات في الإسكندرية التي تنادي "إلى الأمام يا روميل".
في تلك الأثناء تشكلت العديد من الجمعيات الوطنية السرية التي سعت إلى أن يكون لها دور من خلال القيام بعمليات تفجير لمعسكرات الإنجليز أو اغتيال وقتل الجنود البريطانيين في مصر، أو من خلال التخلص من السياسيين المصريين الذين يتعاونون مع الإنجليز. وكان من تلك الجمعيات السرية واحد تتكون من 23 عضوًا جلهم من الطلاب، وكان يدير تلك الجمعية أربعة هم "حسين توفيق ونجيب فخري وسعد الدين كامل ومحمد إبراهيم كامل"، ولم يكن من المستبعد أن يتم تعاون بين بعض الجمعيات الصغيرة والقيام بعمليات مشتركة.
المجموعة المتهمة باغتيال الوزير أمين عثمان يتقدمهم الرئيس السادات
وبناء على هذا التعاون تعرف قادة الجمعية السابقة بأفراد جمعية أخرى على رأسها "محمد أنور السادات، وعمر أبو علي" واستطاع أنور السادات أن يقنع هؤلاء الطلبة بأن يوجهوا جهودهم نحو اغتيال الزعامات السياسية المصرية المتهمة بالتعاون مع الإنجليز، وبالفعل تم وضع خطة لاغتيال الزعيم النحاس حيث قام "حسين توفيق" بإلقاء قنبلة على سيارة "النحاس باشا" لكن لم تصبه بسوء. لم ينتهي الأمر عند ذلك الحد بل تم التفكير في شخص آخر كان له شأن وعلاقة كبيرة مع الإنجليز بل كان همزة وصل رئيسة بين حزب الوفد والسفارة الإنجليزية وهو الوزير "أمين عثمان".
كان أمين عثمان واحد من الوزراء النشطاء في حكومات الوفد المختلفة، وكان له دور في تخليص من ديونها من خلال شراؤها لديونها من إنجلترا في الوقت الذي كانت فيه إنلجترا بحاجة للمال أثناء الحرب العالمية الثانية، ووصل به الأمر إلى التصريح بأن العلاقة بين مصر وانجلترا ترقى إلى علاقة الزواج الكاثوليكي الذي لا طلاق فيه. ويعد "أمين عثمان" واحدًا من وزراء الوفد الإداريين اللامعين وكان ينافس مكرم عبيد في نشاطه السياسي بل وتفوق عليه رغم أنه بدأ حياته السياسية كمدير لمكتبه، لكن ذكاءه وسعة إطلاعه مكنه من الوصول إلى ما وصل إليه إضافة إلى ثقة النحاس فيه واعتماده عليه.
في يوم 5 يناير 1946 قام "حسين توفيق" بإطلاق النار على "أمين عثمان" أثناء دخوله العمارة التي يوجد بها مقر "رابطة النهضة" التي اسسها "أمين عثمان" عام 1945 لتوثيق عرى الصداقة المصرية البريطانية وكان مقرها في شارع عدلي باشا، فأصابه بثلاث طلقات نُقل على إثرها لمستشفى الدكتور عبد الوهاب مورو لكن محاولاته باءت بالفشل في محاولة إنقاذه، استطاع "حسين توفيق" أن يهرب بعد مغامرة مثيرة حيث طارده عدد من الناس وهو في أثناء ذلك يحاول أن يطلق النار عليهم من مسدسين كانا معه، ولكنه استمروا في تتبعه فألقى عليهم قنبله يدويه أخافت الناس ولم يصب أحد، ثم ركب الترام بهدوء حتى وصل إلى منزله.
وكاد حسين توفيق أن يهرب بفعلته هذه التي هزت مصر فهي جريمة سياسية كبيرة راح ضحيتها شخصية كبيرة، لكن الصدفة وحدها هي التي لعبت دورها في إلقاء القبض عليه، فقد كان والد حسين توفيق هو "توفيق باشا أحمد" وكيل وزارة المواصلات وكان يتسم بالصرامة والشدة المهنية وحدث أن طرد أحد موظفي وزارته لسوء سلوكه هو "عبد العزيز الشافعي أفندي"، وكان هذا الموظف يعرف حسين بحكم عمله في الوزارة، وقد قابله عند مقر "رابطة النهضة" حيث كان يتردد عليها للتعرف على مكان الجريمة وترتيبها، وكان هذا الموظف قد انضم إلى تلك الرابطة أملًا في التوصل لشيء، وتبادلا الحديث سويًا لفترة ليست قصيرة، وبعد حدوث عملية الاغتيال هذه وإعلان الحكومة عن مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه، أبلغ "عبد العزيز الشافعي أفندي" البوليس أنه الجاني هو "حسين توفيق" وقد كان ذلك مجرد تخمين ليس إلا بناء على ما سبق.
وبالفعل اتجه البوليس لفيلا "توفيق باشا أحمد" بضاحية هليوبوليس حيث عثر على بعض الأسئلة المخبأة ومفكرية يوميات تحوي عبارات عدائية ضد الإنجليز، وتم إلقاء القبض على "حسين توفيق" هذه الرواية هي رواية "محمد إبراهيم كامل" وهو ابن خالته وشريكه في الجمعية السرية ومن ضمن من تم إلقاء القبض عليهم فقد تم إلقاء القبض على جميع أفراد الجميعة تقريبًا بالإضافة لمحمد أنور السادات وعمر أبو علي، وهناك روايات تذهب إلى أن "حسين توفيق" قد اختبأ فترة لدى إحسان عبد القدوس، الذي حول جريمة الاغتيال هذه لعمل روائي عُرف باسم "في بيتنا رجل" وأنه خرج من بيته بعد أن اكتشف الأمر وتم تهريبه لسوريا، لكن هذه القصة تتناقض مع حقيقة أن "حسين توفيق" تم إلقاء القبض عليه وأودع السجن واعترف بجريمته ومضى على تلك الاعترافات، وكان هناك محاولة من جانب تنظيم السادات بسرقة ملفات تلك القضية من الحاجب الذي كان موكل بنقلها إلى بيت القاضي عن طريق "حسن عزت" شريك السادات في أعمال المقاولة، الأمر الذي يوحي بأن هناك صلة بين الحرس الحديدي الذي أمر الملك فاروق بتشكيله وتلك القضية خاصة وأن "السادات" كان هو الموجه إلى تلك النوعية من الاغتيالات، وكان على رأس قائمة المطلوب اغتيالهم بالإضافة لأمين عثمان النحاس باشا والنقراشي باشا ومكرم عبيد باشا، وجميعهم كوادر ورموز وفدية مرموقة.
ظل حسين توفيق في السجن حتى يونيو 1948 حيث استطاع أن يهرب من السجن بعد الحصول على إذن بزيارة الطبيب وبعد ترجي الضابط بالذهاب لمنزله لزيارة أسرته استطاع أن يهرب من هناك، وبمعاونة البعض سافر إلى الخارج حيث تنقل بين بعض الدول العربية حتى انتهى به المطاف في سوريا، وقد صدر الحكم عليه غيابيًا بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، وفي سوريا كون جميعة سرية قامت بعمليات ضد اليهود والمعابد اليهودية في سوريا كذلك قام بمحاولة لاغتيال الرئيس السوري "أديب الشيشكلي" لكنها فشلت وتم إلقاء القبض عليه وحكم عليه بالإعدام لكن قيام انقلاب عسكري في 25 فبراير 1954 أطاح بالشيشكلي وأعاد "هاشم الأتاسي" للحكم أنقذ رقبة "حسين توفيق"، وتم الإفراج عنه وعاد إلى مصر حيث صدر قرار بالعفو عنه ضمن العفو عن باقي المحكوم عليهم في قضية الاغتيالات السياسية.
ويبدو أن غرام "حسين توفيق" بالتنظيمات السرية لم يتوقف فقد تم إلقاء القبض عليه عام 1965 بدعوى تشكيل تنظيم سري كان يسعى لاغتيال جمال عبد الناصر بحجة تفريطه في السودان، لكن من الواضح أن هذه الحجة واهية فهي بعيدة زمنيًا فقد تم توقيع الاتفاقية الخاصة بالسودان عام 1953 وفي عام 1956 أخذ السودان طريقه بأن فضل الاستقلال عن الاستمرار مع مصر لأمور شرحها يطول، وعليه فإن الاعتماد على مذكرات اللواء فؤاد علام التي تشير إلى ذلك التنظيم تحتاج لأسانيد أخرى. لكن هناك رواية أخرى لسكرتير الرئيس جمال عبد الناصر  السيد "سامي شرف" في كتابه "سنوات وأيام مع  جمال عبد الناصر" تشير إلى أنه رغم تعيين "حسين توفيق في شركة شل للبترول وتقدير الرئيس عبد الناصر له لوطنيته إلا أنه اتفق مع الإخوان لتدبير محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر من خلال زرع حزام من المواد الناسفة تحت شبكة المجاري في شارع الخليفة المأمون وفي مكان لا يبعد عن منزل الرئيس بأكثر من أربعمائة متر!!.
تم القاء القبض على "حسين توفيق" حيث أودع السجن وظل فيه حتى وفاة الرئيس عبد الناصر، ومع تولي الرئيس السادات، اعتقد حسين توفيق أن الكفاح الوطني القديم والذكريات القديمة سوف تكون كفيلة بأن يقوم الرئيس السادات بالإفراج عنه، لكنه ظل في السجن أيضًا طوال حكم الرئيس السادات، بل يقال أنه رفض التماسًا تقدمت به إسرته للإفراج عنه ولا نعرف لماذا تلك المعاملة؟!! وظل بالسجن حتى كان عام 1983 حيث أفرج عنه الرئيس حسني مبارك ولم يمكث مع عائلته إلا بضعة أشهر ليفارق الحياة في نفس العام عن عمر بلغ ثمانية وخمسون عامًا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"