الشيخات المحدثات
الشيخات المحدثات
ماذا لو عرفت أن "بن حجر العسقلاني" أمير المؤمنين في علم الحديث كما قيل عنه قد
تلقى العلم على يد شيخة!وأنه قد أفرد معجمًا أسماه "معجم الشيخة مريم"
وذلك للحديث عن شيخته "مريم بنت أحمد بن إبراهيم الأذرعي الدمشقية"،
ربما تستغرب كما استغربت وأنا أقرأ كتاب النساء المحدثات في العصر المملوكي ودورهن
في الحياة الأدبية والثقافية، للدكتورة أمينة محمد جمال الدين.
كانت دراسة الدكتورة لكتاب النويري "نهاية الأرب في فنون الأدب"
أن راعها أن من بين شيوخ النويري في علم الحديث الشريف واحدة من المحدثات هي الشيخة
أم محمد وزيرة المعروفة بست الوزراء (624-716هـ) وذكر عنها النويري إنها "روت
صحيح البخاري عن ابن الزبيري، وسمعته عليها بالقاهرة سنة خمس عشرة وسبعمائة"،
وكان هذا المدخل أن أخذها لتقصي هذا الشأن النسائي والدور الذي لعبنه في الحياة
الأدبية والثقافية في فترة العصر المملوكي.
ارتكزت دراسة الباحثة على القرنين السابع والثامن واعتمدت على مصادر عديدة
لدراستها كان أهمها كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي (ت 874)، والبداية
والنهاية لابن كثير (ت774)، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد الحنبلي (ت
1089)، وقد أحصت الباحثة ما أورده بن العماد من تراجم المحدثات قد بلغ إحدى وعشرين
ترجمة لمحدثات مارسن نشاطهن في مصر والشام، وزاد العدد إلى سبع وثلاثين محدثة في
القرن الثامن.
وكان معجم الشيخة مريم الذي ألفه ابن حجر العسقلاني قد ضم واحدة وعشرين
شيخة كن بمثابة شيخات لشيخته الشيخة مريم وأجزن لها رواية الحديث. ولا يقتصر دور بن حجر العسقلاني على ذلك المعجم لكنه يمتد
ليقدم لنا الكتاب الذي دارت الدراسة حوله وهو كتاب "الدرر الكامنة في أعيان
المائة الثامنة" وفيه يسجل بكل دقة وأمانة ظاهرة المحدثات في القرنين السابع
والثامن، وكان ترتيب المعجم على حروف المعجم بحيث أنه لم يُفرد قسم خاص للنساء
المحدثات ولكنهن جاءوا جنبًا إلى جنب مع المحدثين من الرجال حسب موقعهم في حروف
المعجم.
وكان بن حجر العسقلاني حريصًا على أن يأتي على ذكر اسم الشيخة كاملًا
وتاريخ ميلادها وما حظيت به من إعداد وتوجيهي أولي في علم الحديث ومن حضرت على
يديه في صغرها من المحدثين، ومشايخها في الإجازة، ونشاطها في خدمة العلم الشريف
فيما بعد، وقد بلغ من حرص بن حجر العسقلاني في إثبات أسماء المحدثات أن يأتي ذكرها
في أكثر من مصدر واحد مما اعتمد عليه في وضع كتاب، الأمر الذي يعني أن هناك محدثات
كثيرات لم يأتي على ذكرهن لأنهن ذُكرت مرة واحدة في مصدر من مصادره.
وقد استطاعت الدكتورة أن تتقصى نحو 234 شيخة ومحدثة في كتاب "الدرر الكامنة"
لابن حجر العسقلاني، والجدول التالي هو عينة لذلك الجهد الصادق الذي قامت به
الدكتورة، وقد خلصت تلك الدراسة إلى أن حركة ونشاط المحدثات والشيخات قد انتقلت من
فارس والعراق إلى الشام ومصر وذلك مع ضغط المغول على الجناح الشرقي للعالم
الإسلامي وتدمير بغداد واجتياحها عام 1258، كذلك يلاحظ أن مدن دمشق والقاهرة
وبعلبك والقدس كانت المدن التي نشطن فيها المحدثات، واحتلت مدينة دمشق
المقدمة
بأن وردت الإشارة إليها 34 مرة ثم القاهرة 17 مرة أي نصف عدد إشارات دمشق، ثم
بعلبك 13 مرة والقدس 11 مرة الأمر الذي يجعل الشام بمدنه الثلاث السابقة هي مركز
الحركة العلمية للمحدثات في تلك الفترة، بل ويجعل مدينة دمشق عاصمة دولة المحدثات
إن جاء التعبير.

ومما هو جدير بالذكر أن هؤلاء المحدثات قد انتسبن لطبقات مختلفة، فمن
بيوتات علم مثل "رقية بنت الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد" وابن دقيق
العيد (ت 702) كبير فقهاء عصر وأنجب
تلاميذ العز بن عبد السلام، و من أسرة السُبكي (ت 756) وهو القاضي تقي الدين علي
بن عبد الكافي السُبكي جاءت ثلاثة من الأخوات في وقت واحد هن ست الخطباء وستيتة
وفاطمة، والحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748) جاءت زوجته فاطمة بنت محمد بن نصر الله
وبنته أمة العزيز.
وهناك من انتمين لبعض أبناء الأشراف مثل فاطمة بنت الشريف أحمد أبي العباس
الحسيني، وهناك من كان أبوها حدادًا وهي هدية بنت محمد بن النجم وبعضهن كن إماء تم
إعتاقهن مثل فلفلة بنت عبد الله البعلبكية، ومؤنسة بنت صبيح، ونارنج بنت عبد الله.
هذا ولم تكن المحدثة تتقاضى أجرًا من طلابها بل كن يأكلن من كسب أيديهن،
فكانت هناك "هدية بنت علي بن عسكر الهراس" كانت محدثة فقيرة تعيش من كسب
يدها بعملها قابلة، وعائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية تعمل بالخياطة.
لا شك أن البيئة العلمية كان لها دورًا في إخراج هؤلاء المحدثات الذين كن
أساتذة لعلماء كبار على رأسهم "بن حجر العسقلاني"، فقد روت "فاطمة
بنت سليمان الدمشقية" عن مائة من علماء عصرها، وقد اقتصر التكوين العلمي هنا
على منازل الأسر أو في حلقات العلم بالمسجد ولم يصل إلى حد طلب العلم عن طريق
الترحال، حيث كان العُرف الاجتماعي لا يسمح بسفر المرأة وحدها ناهيك عن مشقات
السفر الأمر الذي كان لا يقدر عليه إلا الرجال الأشداء، ويلاحظ أن مثل هذه البيئة
الداعمة قد جعلت هناك إمكانية لظهور الأخوات المحدثات فكانت ظاهرة واضحة مثل أسماء
وجويرية بنتا الهكاري، وزينب وعائشة بنتا الخباز.
لقد كانت حياة علمية رائعة دارت حول هؤلاء المحدثات الذين اشتهرن وامتزن
بالأخلاق وحسن المعامة والاصطبار على تعليم الطلبة، وكثر طلابهن طبقًا لتخصصهن،
فبعضهن تخصص في علم واحد وغيرهن تبحر في كثير من العلوم، ففاطمة بنت أبي القاسم
الحلبية حدثت بسنن بن ماجه، في حين أن جويرية بنت الهكاري حدثت بمسموعاتها كلها،
وقد تعدد طلاب العلم لديهم وقد أصبح بعضهم يشار إليهم بالبنان وصاروا من
كبار الحفاظ وعلماء عصرهم مثل؛ الحافظ شمس الدين الذهبي، الحافظ أبو الفضل بن
الحسين العراقي شيخ الذهبي وابن حجر، الحافظ بن حجر العسقلاني، الحافظ برهان الدين
الحلبي، ابن قدامة المقدسي.
كذلك هناك أدباء مثل المقريزي، والنويري، وابن خلكان، وابن فضل الله
العمري، والإدفوي، والسبكي، وأبو حيان الأندلسي، وبدر الدين الدمشقي، وهناك أيضًا
شعراء مثل علي بن الحسين القاسم، وعبد العزيز عبد القادر الربعي.
وفي الختام فإن هذا الدور النسائي لهو حقيق بأن نفخر به وأن نختال به بين
الورى، فنساء حضارتنا شاركوا رجالها في رفع العلم وأي علم إنه علم الشريعة وأجلها
علم الحديث، وكان لهم فضل في تخريج طبقات من العلماء والفقهاء الذين يفتخر العديد
منا بالحرص على اقتناء كتبهم، فليت الزمان يعود لنسترجع مثل هذه النسمات العطرة.
تعليقات
إرسال تعليق