دكتور جمال حمدان ووجهة نظر في الشعب المصري
الشعب المصري من وجهة نظر الدكتور جمال حمدان
في الرابع من فبراير من عام 1928 ولد الأستاذ الدكتور جمال محمود صالح حمدان في قرىة ناي بمحافظة القليبوية وعلى الرغم من مرور قرابة ربع قرن على وفاة هذا الأستاذ العلامة (ت 1993)، فإن أفكاره ورؤاه الاستراتيجية والاستشرافية لا زالت حية تنبض بالحياة، بل وتؤكد على أن كل كلمة قالها هذا الفيلسوف لابد وأن نأخذها على محمل الجد، وأن نعيد دراستها وإقامتها على أرض الواقع.
وبهذه المناسبة يمكن توضيح الخلاصة التي توصل إليها دكتور جمال حمدان في علاقة المفكر الصادق الحقيقي المهموم بحاضر ومستقبل ومصير وطنه من خلال ما كتبه في مقدمة موسوعته في الجزء الأول، ولا زالت تلك الكلمات صادقة، بل والأكثر من ذلك أنها تؤكد على أن هذا الرجل لم يكن يكتب كغيره لمجرد الكتابة والمتعة العقلية، ولكنه كان يكتب لمن يريد أن ينقذ حياة ومصير شعب أمه ودولة حضارة.
![]() |
دكتور جمال حمدان في شبابه |
ويواصل الدكتور حمدان فيردد حزيناً "يبدو عموماً أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها، بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءاً وتدهوراً كلما تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا، كلما زدنا هزيمة وانكساراً كلما زدنا افتخاراً بأننا شعب محارب، وكلما زدنا استسلاماً وتسليماً كلما زدنا تباهياً بأننا شعب سلام متحضر" موجهاً تساؤله واستفساره للقارئ، "أهو نوع من الدفاع الطبيعي عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثاني؟ مؤكداً على حقيقة هامة وهي " أن كل مركب عظمة فعلي أو مفتعل إنما هو مركب نقص مقلوب، تعويض مريض عن شعور هو أصلا مريض أكثر: شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور، باليأس والضمور والإحباط والإنحدار"
وفي الحديث عن مستقبل مصر يذكر "نحن إما متفائلون بإسراف يدعو إلى السخرية والإشفاق أو متشائمون إلى حد متطرف قابض للنفس، ففي النظر إلى مستقبلنا نلاحظ غالباً أن هناك من جهة خطر المتفائلين، إما بسذاجة أم بخبث شديد، أولئك الذين يفضلون خداع النفس لراحة البال على مواجهة الحقيقة المرة، ومن جهة أخرى هناك خطر المتشائمين المنذرين المحترفين الذين أفقدهم التوتر حس النسبية الصحيح هم أيضاً. باختصار مصر أما بخير دائماً أو في خطر أبداً وكلا الحكمين لا يرى أو يضع الحقائق في حجمها الطبيعي السليم".
وفي طريقه لتحديد الأعداء نصدم بحقيقة "أن أعدى أعداء مصر هم بعض المصريين المتعصبين، أولئك الذين يدفنون بإصرار رؤوسهم في الرمال ويتغابون أو يتغافلون عمداً عن عيوبنا، زاعمين أن أم الدنيا بخير وأن ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، والمؤسف أكثر، أن على رأس هؤلاء الأعداء لمصر بالجهل والجهالة وضيق الأفق يأتي غالباً ولا نقول دائماً الحُكم والحاكم، فالحاكم الذي قد يكون أكثر من يسوم الشعب العسف والخسف والهوان والذلة والقهر الجسدي أو المعنوي أو كليهما، بحيث يصبح هو مصدر كل عيوبه وسوالبه، الحاكم لا يتورع بالديماجوجية مع ذلك عن أن ينافقه ويتزلف إليه ويتملق غرائزه الوطنية الطبيعية بتضخيم ذاته وتعظيم صفاته ومناقبه وأمجاده".
وتأكيداً على دور الحاكم في أزمة مصر وشعبها أنه "بزعمه نعيش دائما في عصره أروع وأمجد فترة في تاريخنا وحياتنا بلا استنثاء، كل عصر عند صاحبه هو، وهو وحده، عصر مصر الذهبي، وتلك نغمة أزلية وبضاعة مزجاة يكررها كل حاكم منذ عصر الفرعونية في نقوشهم وسجلاتهم الهيروغليفية على جدران الآثار حتى اليوم في أبواق الدعاية ووسائل الإعلام العميلة التي لا تتحرج ولا تخجل. وبالنظرية أو التطبيق يتوهم مصر دائماً ملكاً له، ضيعته أو قريته الكبرى، هو الدولة وهو الوطن، والولاء للوطن هو وحده الولاء للنظام، فإنه يعتبر كل نقد موجه لمصر إنما هو موجه إليه شخصياً، وبالتالي فهو خيانة وطنية، خيانة عظمى. باختصار النظام أو الحاكم هو بالضرورة والواقع العدو الطبيعي لناقد مصر الموضوعي أياً كان".
ويضيف الدكتور حمدان إلى أزمة مصر السابقة "الشعب المخدوع الساذج نصف الجاهل قد يستأسد ويبطش بابنه ناقده الوطني الذي يريد له الخير والسيادة فيدينه ويسلمه تسليما لسوط الحكم، وذلك بالقدر الذي يخنع فيه ويخضع ويستكين تحت هذا السوط، يتبادل مع قيادته العاجزة الفاشلة الباطشة غالباً وجلاده الغاشم الخائن أحياناً أنخاب خداع النفس وعبادة الذات، الأول يتغابى عن عيوبه الجسيمة بل ويتغنى بها، والثاني يلهيه ويخدره عن استبداه وقهره أو خيانته وغدره بأحاديث المجد والوطنية والأصالة".
الأخطر من ذلك وهو بالتأكيد ما شعر به أن "ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى، يجد نفسه محاصراً في النهاية بين قوسين من الإرهاب والترويع الفكري والجسدي، الحاكم الطاغية المغتر من جهة والشعب المكبل المقهور المغلوب على أمره من الجهة الأخرى، وهو في الحقيقة الذي ينقدها بقوة وقسوة لصالحها بلا مداراة أو مداورة، فصديقك من صدقك لا من صدّقك، ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم"
![]() |
من مقولات حمدان الخالدة |
وهو في ذلك لا يدعو بالتأكيد "إلى نبذ روائع ماضينا أو إلقاء أمجادنا القديمة في البحر، ولكنه يدعو إلى التركيز على عيوبنا، ننظر إليها في عيونها في مواجهة وشجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها، لا لنسئ إلى أنفسنا ولكن لنظهر أنفسنا، فعيوب الشخصية المصرية خطيرة وليست بالهينة أو الشكلية، فهي التي أوردتنا مورد التهلكة في الماضي ووسمت أو وصمت وسودت تاريخنا بالعبودية للطغيان في الداخل دائما وللاستعمار في الخارج غالباً، وهي التي تهدد حاضرنا بنفس الشكل بالخضوع للديكتاتورية الغاشمة في الداخل وبالركوع للعدو الأجنبي الغاصب في الخارج".
والله لكأنها نبؤة تلك التي صدرها عالمنا رحمة الله عليه، تركها ورائه تنبض بالحياة وتشير بحق إلى طريق الخلاص.
تعليقات
إرسال تعليق