الطريق إلى النكسة
الطريق إلى النكسة
معذرة الذكرى سيئة لكن لابد من التذكير بها!!!
"استدرجت إسرائيل الدول العربية لحرب غير مستعدة لها وهددت سوريا بالعدوان المسلح فأعلنت مصر وقوفها بجانب سوريا بمقتضى اتفاقيات الضمان الجماعي والدفاع المشترك وأغلقت خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية وذلك إحكامًا لحصارها الاقتصادي". الفقرة السابقة هي من المقرر الدراسي الذي يدرسه الطلاب في مراحل التعليم المختلفة ليتعلموا أن إسرائيل استدرجت الدول العربية وأن الدول العربية، وعلى رأسهم مصر، لم تكن مستعدة لتلك الحرب وأن مصر وقفت إلى جانب سوريا تنفيذًا لاتفاقية دفاعية وأنها جودت فقامت بإغلاق خليج العقبة أمام إسرائيل لتحاصرها اقتصاديًا.
أمور مضحكة مبكية تلك التبريرات التي لا تقف صلبة أمام النقد، فكيف لثورة قامت في يوليو عام 1952 أحد عوامل قيامها هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948 وحصار الفالوجة الذي تعرض له أحد أبرز أعضاء تنظيم الضباط الأحرار "البكباشي جمال عبد الناصر"، فكان الهدف من تلك الثورة هو إقامة جيش وطني قوي!! لا زالت غير مستعدة لحرب بل ويتم استدراجها لحرب على أرضها كيف هذا وأين المنطق في هذا الكلام؟
لهذا استميحكم العذر فيما قد أسببه لكم من ألم وهو ذلك الألم الذي شعرت به عند قراءتي لذلك الكتاب والذي استخدمت عنوانه في الأعلى وهو كتاب "الطريق إلى النكسة" والذي يتناول فيه مذكرات مجموعة من القيادات العسكرية المصرية كانت في مراكز متقدمة في تلك الفترة و ذلك اليوم وهم "اللواء عبد الحميد الدغيدي، الفريق عبد المحسن مرتجي، الفريق أنور القاضي، الفريق صلاح الدين الحديدي، الفريق أول محمد فوزي"
لنبدأ بمذكرات اللواء عبد الحميد الدغيدي الذي كان القائد الجوي المسئول عن جبهة قناة السويس وسيناء وهو منصب يعادل قائد القوات الجوية والدفاع الجوي في الجبهة، كان اللواء الدغيدي أحد الذين آثروا البقاء في خدمة القوات المسلحة بعد الثورة، ونال درجة الماجستير في العلوم العسكرية بل كان أحد الذين شاركوا في التنظيمات السرية الوطنية،
بكل وضوح وقدرة على التحديد يشير اللواء عبد الحميد الدغيدي إلى أن المسئول عن هزيمة يونيو 1967 خمسة هم: الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر ورئيس الأركان الفريق محمد فوزي وقائد الجيش الثاني الفريق صلاح محسن وقائد المخابرات الحربية الفريق محمد أحمد صادق. ويتهم اللواء الدغيدي الرئيس عبد الناصر باصطفاء أصحاب الزلات واعتماده عليهم لأنهم أسلس قيادة الأمر الذي يفسر بقاء الفرسان الثلاثة "فوزي وصلاح محسن وصادق" على رأس القوات المسلحة في حين أن باقي القواد الكبار أحيلوا للتقاعدة أو حوكموا عن تهم من صنع المسئولين عن الهزيمة.
ويعتقد اللواء الدغيدي أن معارضته للرئيس عبد الناصر ورفضه للتوجهات التعبوية المتعجلة أن جعل الرئيس عبد الناصر في أشد الضيق النفسي منه، فما كان أن قلص سلطاته بتعيين قائد مناوب معه في منصبه، وبعد النكسة كان فرصة للمحاسبة حيث أحيل الدغيدي للتقاعد وقُدم للمحاكمة باعتباره أحد المسئولين عن الهزيمة، الأمر الذي برأته منه المحكمة لانتفاء التهمة ثم قدم مرة أخرى وبرئ مرة ثانية لانتفاء التهمة، وكان الرجل مستعد لأن يتنازل عن البرائتين ويقدم للمحاكمة مرة أخرى لكي يثبت براءته مرات أخرى.
وبكل وضوح يحدد اللواء الدغيدي سبب الهزيمة الذي يتمحور في أن قرارتنا العسكرية غير المحسوبة أفسحت المجال للعدو للقيام بضربته الجوية المركزة، ويشك في الوقائع التي أفضت لذلك الأمر حيث يثير الريبة في الحديث عن إشارة عجلون وتغيير شفرتها وإغلاق مركز قيادة العمليات العام الذي ستصب فيه الإشارة، والمظلة الجوية الغائبة عن سماء بحيرة البردويل، كل ذلك افسح الطريق لنجاح الضربة الإسرائيلية. كذلك يشير الدغيدي لأمر غريب ومتناقض لم يحدث من قبل وهو أنه في الوقت الذي كانت فيه قواتنا البرية تتخذ مواقع دفاعية فإن الطيران اتخذ في البداية مواقع هجومية.
ويحرص اللواء الدغيدي على التأكيد على أن هزيمة 67 ليست كما يرى البعض في أننا لم نهاجم من البداية فهذا الهجوم كان سيكلفنا 95% من قواتنا البرية على خط الدفاع الأول وذلك لأننا نفتقد للمعلومات الخاصة بأقواس نيران العدو وتحصيناته، ولكن في الوقت نفسه فإنه يرى أنه كان من الممكن أن نحقق الانتصار في حالة واحدة وهي لو ثبتنا واحتوينا الهجوم وضغطنا على العدو وبدأنا بالهجوم المضاد، ويا للغرابة كما يقول قائد القوات الجوية وقتذاك، فطياراتنا أحدث ومستوانا أعلى وإسرائيل ليس عندها عمق، لكن الذي حدث أن غياب القيادة أدى إلى إنهيار الجبهة مرة واحدة أمام العدو فالحرب عبارة عن قائد يعطي أمرًا".
ومن مفارقات القدر أن أمر القتال الذي أصدره اللواء الدغيدي واستغلته إسرائيل عند عثورها عليه وقدمته للأمم المتحدة كوثيقة دالة على أن مصر هي التي بدأت المعركة قد استغله الدغيدي نفسه كدليل لرفع الغبن الذي وقع عليه ودليل على براءته حينما تم تحويله إلى المحاكمة، وقد كان أمر القتال هذا المعروف باسم "فهد واحد" يتضمن أمرًا بمهاجمة 13 مطارًا إسرائيلياً والمفاعل الذري في ديمونة، وما يأسف له اللواء الدغيدي أن الصفحات المضيئة من تاريخ مقاومة القوات الجوية والدفاع الجوي في حرب 1967 لم يتم إبرازها وتصويرها التصوير اللائق الذي تستحقه حتى إن البعض يرى أن بطولات الطيران في تلك الحرب كانت بطولات فذة وأن كل من طار في تلك الحرب هو بطلًا بكل معاني الكلمة.
رواية اللواء عبد الحميد الدغيدي طويلة ولكن فيها من الأمور الغريبة في تاريخ العسكرية فهل من المعقول ألا يعرف قائد القوات الجوية بخبر هجوم القوات الإسرائيلية على أم بسيس داخل حدودنا المصرية صباح يوم 5 يونيو إلا في أثناء محاكمته بعد شهرين من الحرب؟ الحقيقة أن المحاكمة ما كانت لتجرى لهذا القائد ولكنها كانت المفروض أن تخصص لمقاضاة قيادات أخرى منها قائد الجيش الميداني لأنه لم يطلب معاونة الطيران الجوي المخصص، ولو حدث ذلك لتغير الموقف 100% خاصة وأن وجود الطيران المصري في سماء سيناء كان معناه اكتشاف الهجوم الجوي الإسرائيلي الذي حدث في تمام الساعة التاسعة إلا ربع، الأمر الذي كان يعني سهولة مطاردة تلك الطائرات وهي بحمولتها تكون غير قادرة على المناورة الأمر الذي كان يجبرها لسرعتها المنخفضة وللتخلص من تلك المطاردة من قبل طائراتنا المصرية بإلقاء تلك الحمولة في أي مكان بعيدًا عما كان مخصص لها في قواعدنا الجوية.
أعتقد أن هناك أمور لازالت تستحق التحقيق منها عدم وصول إنذار الرئيس لقائد القوات الجوية، وعدم وصول إشارة عجلون وتغييرها من "عنب ـ عنب ـ عنب" إلى الشفرة العادية وكذلك المقدم طيار فاروق الغزاوي الذي تأخر في الخروج بالمظلة ما بين 5-7 دقائق وفي هذا الوقت تمكنت القوات الجوية من اختراق الأجواء المصرية من منطقة بحيرة البردويل، بل إنه اللواء الدغيدي وجه الاتهام لذلك المقدم بتهمة المسئولية عن استشهاد زميليه مدحت المليجي وعبد المنعم مرسي.
وقد أشار الدغيدي أثناء مذكراته إلى طلبه من السوريين أن يساعدوهم بطائراتهم أثناء ضرب الطيران الإسرائيلي لمصر خاصة وأنه في ذلك الوقت كان من الممكن مهاجمة إسرائيل من جهة الشرق خاصة وأن سمائها مفتوحة، لكنهم تحججوا بأنهم طيرانهم في تدريبات، الأمر الذي يرجعنا مرة أخرى لما يكرر على أسماعنا وهو أننا احتشدنا في سيناء بقواتنا بسبب الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية، فكيف يستقيم الأمران حشود على حدود سورية وفي نفس الوقت تقوم طائراتهم بتدريبات وترفض أن تقف لجانبنا لصد الضربة الجوية؟
أمر آخر وهو سؤال أعتقد أنه من الصعب الإجابة عليه حتى لو كانت الإجابة موجودة وهو كم حجم المعلومات السرية التي حصلت عليها إسرائيل من الوثائق المصرية التي كان من الضروري أن يتم التخلص منها لسريتها وخطورتها ولم يتم ذلك؟ فإن إسرائيل قد استولت على جميع الوثائق السرية التي كانت موجودة في مطار العريش وكان منها ذلك الأمر "فهد واحد" الخاص بضرب مطارات إسرائيل، ولا زال الأمر محفوظًا في وثائق الأمم المتحدة حيث قدمته إسرائيل للإدعاء بأن مصر كانت هي البادئة بالحرب وكانت هي المعتدية وأن حربها هذه كانت حرب دفاعية وليست هجومية.
رحم الله اللواء عبد الحميد الدغيدي وأسكنه فسيح جناته جزاء ما قدم من جهد في رفعة شأن هذا الوطن وجزاء ما قدمه لنا من معلوماته لعلها ترفع عن بصرنا وبصيرتنا غياهب الجهل المقدس الذي نعاني منه ويجعلنا نتخبط في سبب الهزيمة التي لا زلنا نعاني من تبعاتها حتى وقتنا الحالي.
تعليقات
إرسال تعليق