إدوارد هنري بالمر؛ العلم في خدمة السياسة
إدوراد
هنري بالمر؛ العلم في خدمة السياسة
اكتشف في أثناء سني دراسته الأولية، والتي لم يكملها،
أنه يميل إلى تعلم الألسن ورغبة في معرفة اللغات، الأمر الذي مكنه من أن يتعلم
العديد من اللغات الشرقية في مقدمتها اللغة العربية والتركية والفارسية، والأردية،
وبعض اللغات الهندية، وكان لهذه اللغات التي تعلمها كبير فضل في أن يتم استخدامه
في عدد من البعثات التي كان الهدف المعلن منها أنها علمية واستكشافية، لكن الغرض
منها كان أدخل في صميم الاستخبارات وجمع المعلومات.
في عمر السابعة والعشرين أرسل بالمر لأول مرة إلى الشرق
الأوسط، كي يعمل في بعثة غرضها استكشاف فلسطين، لصالح "جميعة استكشاف
فلسطين" غرضها التعرف على والوصول إلى طريق الخروج الذي اتبعه بني إسرائيل
عند هروبهم من فرعون مصر عبر شبه جزيرة سيناء، وكان نتيجة هذه الرحلة كتابه المسمى
"صحراء الخروج عام 1871".
رحلته الثانية، لم تكن رسمية، ولكنها كانت رحلة مغامر
حمل خيمته وكاميرته ومؤن غذائية تكفي لمدة ثلاثة أشهر، خلال تلك الرحلة تجول عبر
بلاد الشام، وقابل "ريتشارد بيرتون" القنصل البريطاني في دمشق،
ورريتشارد بيرتون هذا واحد ممن استشرقوا وجابوا بلاد العرب باحثاً ومستكشفاً وكذلك
حاجاً في زيه العربي ويعد ثاني شخص غير مسلم يحج وذلك عام 1855، بعد لودفيكو دي
بارتيما عام 1503. كذلك في تلك الرحلة قابل "أرمنيوس فامبري" وهو أحد
اليهود الذين كانوا على علاقة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وهو كذلك مستشرق مجري،
واستاذ بجامعة بودابست، وكان له مواقفه من أحد مشاريع الاستيطان اليهودي في الجبل
الأخضر في ليبيا، وكان نتيجة تلك الرحلة في بلاد الشام أن أنتج كتابان هما
"الطوائف السرية في سوريا، والثاني عن "القدس/ أورشليم"
رحلته الثالثة والتي كانت جزء من المخطط الاستعماري
البريطاني وخدمة جليلة للتاج البريطاني، عندما أيقنت الإدارة البريطانية في Whitehall (إشارة إلى
السلطات الإدارية البريطانية التي كانت تتواجد في أحد شوارع بريطانيا التي عرفت
بهذا الاسم نسبة إلى واحد من أهم وأكبر قصور بريطانيا بل أوربا في فترة تاريخية
سابقة) أنه لابد من التدخل بحملة في مصر لمواجهة خطر تمدد الحركة الوطنية التي
التفت حول الكولونيل (عقيد/ قائمقام) أحمد عرابي.
كانت خطة الحملة والتدخل البريطاني في مصر أنه لن تقوم
بعملية إنزال بري على ساحل البحر المتوسط (ربما كانت حملة فريزر وما تعرضت
له القوات البريطانية لا زالت ماثلة في الأذهان لاحظ مدى الحرص على عدم تكرار
أخطاء الماضي حتى لو اختلفت الظروف) وكانت الخطة هي أن يكون المدخل إلى الاستيلاء
على مصر عن طريق قناة السويس.
وكان هذا التوجه يتطلب من الحكومة البريطانية أن تستطلع
وتستكشف مدى إمكانية أن تقوم القبائل العربية في سيناء بتقديم يد الدعم والمساندة لعرابي،
كذلك ما مدى العلاقات العسكرية القائمة بين عرابي في مصر وبين القوات العثمانية
المتواجدة في بلاد الشام، ومدى إمكانية تأثير الدعوة إلى الجهاد ضد ذلك التوغل
البريطاني في أراضي الخليفة الإسلامي.
أختير بالمر من قبل الحكومة البريطانية بأن يتم إنتدابة
لتلك المهمة الغاية في الحساسية، اعتماداً على علاقاته السابقة ببعض رجال القبائل
البدوية واعتماداً على خبراته وتقاريره وكتبه التي سبق وأن أنتجها، ناهيك على
معرفته الجيدة باللغة العربية.
بفرحة غامرة كونه يقوم بمهمة رسمية لصالح التاج
البريطاني، مع حصوله على 500 جنيه ووعد بنحو 2000 جنيه أخرى ووسام فخري، وصل في
يوليو إلى يافا وبعدها بعدة أيام خرج من مدينة غزة، في زي أحد العرب مستمياً باسم
" الشيخ عبد الله" كأحد الموظفين السوريين في مهمة رسمية، قاطعاً شبه
جزيرة سيناء حتى وصل إلى مدينة السويس بشكل سالم تماماً وآمن، وبعث برقيته وتقريره
إلى مبعوثيه مؤكداً على حقيقة وجود بعض الأحاديث الداعية إلى الجهاد، ولكنه أكد
على إستعداد أن يأد تلك التحركات البدوية مقابل مبلغ يتراوح بين 20 ألف إلى 30 ألف
من الجنيهات الاسترلينية، ويستطيع أن يشتري ولاء نحو 50 ألف بدوي في منطقة شبه
جزيرة سيناء وما حولها.
لم تلجأ الحكومة البريطانية إلى فكرة بالمر، وأعادته مرة
أخرى إلى سيناء، وأرسلت معه ضابطين بزيهما الرسمي كي تظهر أن المهمة بالفعل رسمية،
أحدهما كان المقدم "جيل" أحد ضباط سلاح المهندسين الملكي، وكان ذائع
الصيت نتيجة ما قدمه من اكتشافات عبر رحلاته في أقاليم جبال القوقاز، والأراضي
الصينية، وهضبة التبت وليبيا وحصل على الميدالية الذهبية من "الجمعية
الجغرافية الملكية"، أما الضابط الثاني فكان "المقدم تشارنتون، وكانت
مهمة كل من جيل وتشارنتون إلى جانب كونهما
مرافقين لبالمر، أن يقوما بقطع خطوط التليغراف الممتدة عبر شبه جزيرة سيناء
والواصلة بين القاهرة ودمشق.
إلى جانب هؤلاء الثلاثي البريطاني، كان معهم طباخ يهودي
اسمه " بخور حبسون" وصحبهم كذلك مترجم سوري يدعى "خليل عتيق"
وكان خبيرهم ومعتمدهم في صحراء سيناء من "مطير أبو صفيح" أحد كبار
الصفايحة اللحيوات ومعه ابن أخيه سالم، وتسعة جمالة ثمانية من العليقات والتاسع من
مزينة.
عرض الشيخ عبد الله وهو الاسم الذي اتخذه ادوارد بالمر
على أحد مشايخ العليقات "عودة الزميلي" أن يصحبه في رحلة عودته مرة أخرى
إلى سيناء وذلك عندما وصل إلى السويس، ولكن الشيخ عودة رفض قائلاً إن "البر
مهزوز" ولن أضمن سلامتك، وكان الشيخ عودة يعتقد أن "عبد الله /
بالمر" يريد السفرة والترحال عبر صحراء سيناء، ولم يكن يدرك أنه يقوم بمهمه
لصالح من جعلوا البر مهزوزاً، وأنه في سفرته هذه يسعى أن يوقف تلك الاضطرابات، بأن
يضمن استقرار بدو سيناء وألا يثيروا متاعب عند وصول البحرية البريطانية إلى قناة
السويس، ولا يشتركوا مع عرابي في قتاله.
تعرض بالمر أثناء رحلته لسطو من قبل بعض لصوص القبائل
العربية في شبه جزيرة سيناء، وسرقت بعض جماله في بادئ الأمر، ولكن المهمة كانت
حيوية لصالح الإمبراطورية، الأمر الذي كلف بالمر والضابطان وطباخهم والمترجم
حياتهم جميعاً في أغسطس من عام 1882، لكن اختلفت الروايات هل تم إلقائهم من على
أحد المرتفعات، أم تم إطلاق النار عليهم ثم قطعت جثثهم بالسيوف.
بعد أن استولت بريطانيا على مصر في سبتمبر 1882، اجتهدت
في الوصول إلى بالمر ورفاقه والتعرف على ما حدث لهم، وحينما تأكدت من وفاتهم، كان
الإجتهاد الأكبر في القبض على من قام بذلك العمل الشنيع ضد وفد رسمي يمثل
الامبراطورية البريطانية والتاج البريطاني.
وكانت النتجية أن تم إلقاء القبض على عدد من بدو سيناء
الضالعين في الأمر، ومنهم مطير أبو صفيح وابن أخيه الذين رافقوا بالمر في رحلته،
والذين اتهموا في الاستيلاء على المال، وقد دلوهم على المال بعد أن نكروا في بادئ
الأمر، وقد ماتا في السجن، وتم إعدام خمسة أشخاص وحكم غيابياً على خمس آخرون.
استعادت بريطانيا رفات بالمر في شهر أكتوبر، وأعادته إلى
بريطانيا وفي حفل تأبين وأبهة تم دفنه في كاتدرائية سانت بول، وعلى الرغم من تلك
الحفاوة التي حظى بها حفل تأبينه إلا أن الحكومة البريطانية رفضت أن تعترف بأنه
كان في مهمة رسمية لصالح حملتها على مصر، وأصرت على أنه مات في أثناء رحلته
وتجواله بغرض شراء الجمال.
ومع ذلك يظل بالمر واحداً من الذين وضعوا مواهبهم
العلمية في خدمة أهداف سياسة بلادة العملية، وكان دفنه في كاتدرائية سانت بول
تقديراً لهذه الجهود، حتى ولو لم تعترف الحكومة بالهدف من الرحلة.
لقد كان بالمر وغيره أدوات في خدمة الاستعمار ومشاريع
التوسع الإمبرالي، وجزء من مسلسل الاستخبارات الذي تمارسه القوى الكبرى في كل وقت
وكل زمان، ومع بالمر كان جيل وبالتأكيد كان له دوره وكتاباته التي أفادت بريطانيا
في الصين والتبت وغيرها من البلاد، وكذلك ريتشارد بيرتون بالتأكيد سياحته في
الجزيرة العربية والتعرف عليها أفادت أهداف بريطانيا الاستعمارية، وأهداف من أتى
بعدها، إنه العلم في خدمة السياسة، تأكيدًا حاسماً على أن التهمة التي اتهم بها
الألمان بأنهم أساؤا للجغرافيا بتطبيق "الجيوبوليتيك" لم تكن أكثر من
مزحة إذا ما قورنت "جيوبولتيك بريطانيا وجيوبولتيك فرنسا وجيوبوليتيك
الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي والحاضر والمستقبل.
(صورة لبالمر ورفاقه في رحلته في شبه جزيرة سيناء)
تعليقات
إرسال تعليق