بطولة الأورطة المصرية السودانية في المسكيك

بطولة الأورطة السودانية المصرية
في المكسيك (1863-1867)
تحت هذا العنوان أصدر الأمير عمر طوسون كتابه عام 1933 ليتحدث عن بطولة الأورطة السودانية التي سافرت إلى المسكيك في عهد والي مصر سعيد باشا (1854-1863) وبلغت مدة مكوثها في المكسيك أربع سنوات فقد وصلت المسكيك في 23 فبراير 1863 وغادرتها في 12 مارس 1867، وقدرت قوة تلك الأورطة عند السفر 453 رجلًا عاد منهم 313 وبالتالي فإنها فقدت 140 من قوتها في المعارك التي شاركت فيها الأورطة على الأراضي المكسيكية، وإن فقدت الأورطة سبعة من رجالها أثناء رحلتها التي استغرقت سبعة وأربعين يومًا على متن الفرقاطة الفرنسية لاسين من ميناء طولون في فرنسا إلى ميناء فيراكروز بالمسكيك قبل أي أعمال حربية.
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أنفي عن تلك الأورطة السودانية البطولة والفدائية وأنها قامت بمهمتها الموكولة إليها خير قام، فخلال تلك السنوات الأربع التي مكثتها في المكسيك خاضت تلك الأورطة ثمانية وأربعين معركة توزعت كالتالي ثمانية معارك عام 1863، أحد عشر معركة عام 1864، ثمانية عشر معركة عام 1865، أحد عشر معركة عام 1866، ولا شك أنه عدد كبير من المعارك مقارنة بعدد تلك القوة التي كانت تتكون من أربع بلوكات فقط من آلاي المشاة التاسع عشر، ولكن هل حقًا يمكن القول أن ما قامت به تلك الأورطة كان بالفعل بطولة؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال من جهتين؛ الأولى من جهة الأورطة وأنها كما سبق القول قامت بالفعل ببطولة خاصة بها وبأفرادها خير قيام من خلال المشاركة في تلك الحرب التي لم تكن لها فيها ناقة ولا جمل، وأن ما قامت به يمكن القول أنه من أجل الحفاظ على حياتهم، وأنهم لو لم يقوموا بالدفاع عن المواقع التي طُلب منهم أن يتواجدوا فيها، أو أن يؤدوا المهام الموكولة إليهم في جهات المكسيك فإنهم بالتأكيد كانوا سيفقدون أرواحهم كذويهم الذين أتت الحرب عليهم فقد مات في المعارك التي خاضتها تلك الأورطة ستة وثمانون من قوتها، والباقي مات بسبب الأمراض خاصة الحمى التي قضت على أربعة وخمسين كان على رأسهم قائد الأورطة "جبرة الله محمد أفندي"، والذي كانت وفاته خسارة كبيرة للأورطة وقد عوضه الصاغ "محمد ألماس افندي" والذي منُح رتبة البكباشي.
أما من الجهة الثانية فهي من ناحية الوالي "سعيد باشا" ومن خلفه "إسماعيل باشا" فهل يحق لهما أن يرسلا جزءًا من الجيش المصري ليحارب في بلاد غريبة في أقصى الغرب ويزج بهم وبأرواحهم في حرب ليس لهم ولا لنا فيها لا ناقة ولا جمل؟ إلا فقط لينالا رضى حاكم فرنسا "نابليون الثالث" صديقهم، ثم أي أنواع تلك البطولة التي كانت فيها تلك الأورطة لا تزيد عن كونها مجموعة من المرتزقة الذين قامت فرنسا بجمعهم من مستعمراتها "كالجزائر" أو من أصدقائها الحكام كسعيد وإسماعيل؟!
تبدأ القصة مع الديون التي وقعت فيها دولة المسكيك أثناء الصراع والحرب الأهلية بين حكومة محافظة بقيادة "ميجيل ميرامون" وحكومة تقدمية يقودها رجل ذو أصول هندية يدعى "بنيتو خواريز" وحدث أن حصل "ميرامون" على قروض من إحدى البنوك السويسرية، ولكن هزيمة "ميرامون" لم تمنع البنك السويسري من إقناع فرنسا وإمبراطورها "نابليون الثالث" بأن يحصل تلك الديون من حكومة "خواريز" التي امتنعت عن سداد تلك الديون لمدة عامين لمستحقيها من الإسبان والإنجليز والرنسيين، خاصة وأنها بطبيعة الحال لم تحصل عليها كما أنها كانت ديون مبالغ فيها حيث أن ما حصل عليه "ميرامون" هو 750 ألف دولار فقط، في حين أنه ضمن للبنك السويسري سندات بقيمة 15 مليون دولار. كذلك استطاعت الكنيسة الكاثوليكية أن تقنع الإمبراطورة "أوجيني" بما يمكنه أن تحققه من مكاسب من خلال إقامة كنيسة كاثوليكية موحدة في وسط أمريكا مما دفعها إلى إقناع زوجها "نابليون الثالث" لهذا المسعى الديني، كذلك فإن حلم الإمبراطور الفرنسي بالحرية الاقتصادية ودعم أقاليم وسط أمريكا وحفر قناة تصل المحيطين كانت دافعًا آخر نحو تلك الحرب التي لم تكن الأولى فقد سبقتها حرب المعجنات الفرنسية في عهد لويس فيليب عام 1838، كذلك فإنه أخيه غير الشقيق "دوك دي مورني" كان أحد أكبر حامل للسندات المكسيكية.
حاول "نابليون الثالث" أن يستعين بأصدقاءه حكام الدول ذات النظم الشمولية مثل "سعيد باشا" بعد أن دخل في اتفاق مع كل من إمبراطوريتي إسبانيا وإنجلترا كما حصل على دعم عسكري من إمبراطورية النمسا ومملكة المجر ومملكة بلجيكا وكذلك بولندا بالإضافة إلى الولايات الكونفيدرالية الأمريكية، وقدر عدد تلك القوات بـ 19262 أي أنهم أقل بقليل من قوات "الإمبراطورية المكسيكية" والتي بلغ عددها 20285 في حين شاركت فرنسا 38493 جندي، اعتقد "نابليون الثالث" أنه من الممكن أن يحصل على بغيته من صديقه "سعيد باشا"، فليس في مصر  من يسائله عن الغرض أو الهدف من إلقاء جنود تلك الأورطة في بلاد ليس لنا خبرة بأرضها ومناخها وناسها، وعن العائد الذي سيعود على مصر كدولة من تلك المشاركة، اللهم إلا إذا كان العائد شخصي لصالح سمو الوالي ممثلًا في كسبه استمرار صداقة "نابليون الثالث" وأن يظهر أمامه بمظهر الصديق الوفي الذي يجده إذا ما استدعاه.
ويبدو أن "سعيد باشا" قد وازن الأمر بالفعل وقد أدرك أن مصر ليس لها مصلحة في تلك الحرب ولكنه في الوقت نفسه آثر ألا يفقد صداقة "نابليون الثالث" ولذا فإنه عندما طلب "نابليون الثالث" من "سعيد باشا" أن يمده بآلاي من الجنود السودانيين فضل "سعيد" أن يقدم أورطة فقط، فهو من جهة حريص على ألا يفقد جنوده في معركة ليس له فيها مصلحة، وفي نفس الوقت فضل ألا يخسر صداقة "نابليون الثالث"، لذا نجد أن قوات العاهل المصري التي شاركت في تلك الحرب كانت أقل القوات المشاركة من الدول الصديقة لنابليون، لكنها على كل حال استمرت حتى آخر الحرب رغم أن أسبانيا وانجلترا انسحبتا بقواتهما بعد أن أدركتا أن هدف "نابليون الثالث" هو تمكين فرنسا من السيطرة على المكسيك دون تدخل من الدول الأوربية وإقامة حكومة موالية لفرنسا.
ولكن إذا كان ذلك هو تفكير "سعيد باشا" فإن الخديو إسماعيل لم يكن لديه مانع في أن يذهب أبعد من ذلك فقد سعى إلى استبدال تلك الأورطة السودانية عام 1865من خلال تجهيز أورطة كاملة تبلغ ثلاثة أمثال الأورطة الأولى، حيث طالب بتكون أورطة من ألف جندي من السودان وإرسالهم على وجه السرعة إلى المكسيك وعلى نفقة الحكومة المصرية حيث تقوم بنقلهم الباخرة الإبراهميية إلى ميناء طولون، مع تجهيزهم على أكمل وجه، وقد أصر على أن يكون هؤلاء الجنود والضباط شبانًا ذو بنية قوية ومنظر وهيئة حسنة، ولكن كان الله رؤوف بعباده هؤلاء حيث أن ظهور الكوليرا في السودان منع نقل هؤلاء الجنود، ولكن هذا كان سبب ثانوي في حقيقة الأمر إذ أن الحرب في المسكيك كانت قد بدأت تمثل لفرنسا إنهاك ووجدت أنه من الأوفق التوصل إلى حل واتفاق يرضي الطرفين، خاصة بعد أن تمكنت الولايات المتحدة من إنهاء حربها الأهلية وبدأت في دعم صديقها الرئيس المكسيكي "بنيتو خواريز" وتفعيل مبدأ الرئيس الأمريكي "مونرو"برفض التدخل الأوربي في شئون الأمريكتين، الأمر الذي ترتب عليه أن رجعت الأورطة المصرية الأولى في بداية عام 1867 ولم يتم استبدالها بأورطة أخرى.
هذا ويمكن القول أنه بالقراءة المتأنية لكتاب "عمر طوسون" بطولة الأورطة المصرية السودانية في المكسيك، سوف نجد أن المواقع التي كانت تتخذها تلك الأورطة المصرية كان فيها تجني عليهم من قبل القيادة الفرنسية، فقد كانت مواقع صعبة فهي إما جبلية وإما ذو مناخ شديد الحرارة ناهيك عن الأوبئة التي كانت منتشرة في مستنقعات المسكيك كالحال في مدينة فيراكروز على ساحل خليج المكسيك، كذلك تم استخدامهم في المواقع التي فشل الجنود الفرنسيون في الدفاع عنها أي أنهم كانوا بديلًا للحفاظ على أرواح جنود فرنسا، كذلك عانى جنود الأورطة من سوء التغذية وهو أمر خطير ظهر في زيادة أعداد وفياتهم خلال عام 1863 حيث فقدت الأورطة سبعة وأربعون جندي ولكن مع تدارك الأمر بدأت الأمور في التحسن، كذلك تم تكليف جنود الأورطة السودانية بالإشراف على الأسرى المكسيكيين الذين تم استخدامهم قسرًا في مد خطوط السكك الحديدية، ولما كان هناك محاولات عديدة لعرقلة هذا العمل فلم يجدوا خيرًا من جنود الأورطة كي يرموهم في مواجهة النيران.
وعادة ما كان يقاتل جنود الأورطة السودانية قوات تفوقهم عددًا، الأمر الذي استلزم الثناء عليهم وعلى شجاعتهم التي ظهرت في تلك المعارك، ففي 12 يوليو 1864 واجه جنود الأورطة المصرية السودانية ستة أمثالهم عددًا من الجنود المكسيكيين وقد قاتلوا قتالًا عنيفًا تطلب أن يثني عليهم القائد العام الفرنسي في تقريره إلى وزارة الحربية الفرنسية، وخص بالذكر منهم اليوزباشي حسين أحمد والمالزم فرج الزيني والجاويشية حديد فرحات ومرجان الدناصوري والانباشي الحاج عبد الله حسين باشه والجندي كوكو سودان كباشي، وقد مُنح الانباشي عبد الله حسين باشه وسامًا عسكريًا لبسالته التي أبداها في هذه الواقعة والجرح العميق الذي أصيب به وعدد القتلى الذين أجهز عليهم، ولطعنه بحربة بندقيته جنديًا مكسيكيًا فلما نشبت به رفعه بها وذراعه غير منثنية.
لا شك عندي أن الأمير عمر طوسون قد نظر إلى دور تلك الأورطة من منظار وطني وأنها بالفعل أورطة تستحق البطولة والإشادة وهو أمر لا مراء فيه، لكنه نسى أن يؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها وأن تتخلص من الهيمنة والإمبريالية، ألم يكن هو نفسه داعيًا إلى تأليف الوفد المصري عام 1918 كي يسافر إلى فرنسا لحضور مؤتمر الصلح في باريس للمطالبة بحق مصر في تقرير مصيرها ونيل استقلالها وإلغاء الحماية البريطانية ومغادرة الجيش البريطاني الأراضي المصرية؟ فكيف له أن يطلب لنفسه ما يحرمه على غيره؟ حاولت أن أتصنع للأمير مخرجًا بأنه تناول أمرّا دارت أحداثه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث الحكومات الشمولية هي السائدة، ولكني وجدت أن الرجل ألف هذا الكتاب في النصف الأول من القرن العشرين عام 1933، فكان عليه أن يضع الأمور في نصابها، وألا يصف الشعب المكسيكي الذي طالب بالحرية باللصوص والمجرمين. كذلك فإن الأمير "عمر طوسون" وهو معروف عنه حبه للمعرفة لم يأت من قريب أو بعيد عن دور الديون في تلك الحرب، وأنها كانت لاستنزاف ثروات الشعوب باسم الدائنين وهو أمر تكرر من قبل بل إنه يدرك أن مصر ما تعرضت للاحتلال وفقدت استقلالها إلا باسم تلك الديون.
انتهت الحرب وعادت الأورطة وفي طريقها لمصر عرجت على فرنسا فتم تكريمهم وقابلوا الإمبراطور "نابليون الثالث" وفي مصر قابلهم الخديو اسماعيل ومنحهم الرتب والنياشين والترقيات، وقد فعل خيرًا الأمير عمر طوسون أن ضمن كتابه جميع أسماء جنود تلك الأورطة، وكان لبعضهم دورًا مميزًا في الجيش المصري خاصة في السودان، وظلت بعض أسمائهم تلهب الحماسة ، ومنهم "كوكو سودان كباشي، وهو أحد هؤلاء الجنود الذين تم الثناء عليهم لبسالته في تلك الحرب، وهناك راوية متداولة الآن تحمل اسمه "كوكو سودان كباشي"، للأديبة سلوى بكر، تفضح من خلالها العنصرية التي كانت سائدة في فرنسا رغم شعارات الحرية والإخاء والمساواة.



 
اربعة من جنود الأورطة مع شارل جلياردو بك مؤسس متحف بونابرت في القاهرة والجنود من الشمال لليمين اليوزباشي إدريس أفندي نعيم، الصاغ فرج أفندي وني، الصاغ عبد الله أفندي سالم الفقي، والجالس القائمقام صالح بيك حجازي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"