للدولة العثمانية فضل لا ينكر


للدولة العثمانية فضلٌ لا ينكر
رغم كل المحاولات المتواصلة لطمس فضل الدولة العثمانية على الوحدات العربية التي كانت قائمة في القرن 15 الميلادي، يظل نور ذلك الفضل جليًا واضحًا لا ينكر، جهود حثيثة بذلت من جهات ومؤسسات عدة سواء كانت استشراقية أو استغرابية من أجل تأكيد ظلامية الفترة التي عاش فيها العالم العربي في ظل الدولة العثمانية على مدى أربعة قرون تقريبًا، مؤلفات ليس لها إلا الحديث عن الجمود والتخلف الذي عايشته دول وشعوب العالم العربي في ظل الدولة العثمانية، لا تجد نقيصة إلا رميت بها ولا تهمة إلا ألصقت فيها.
يبدأ القول بأن السلطان سليم الأول (1512-1520) تحول ناحية الشرق والإستيلاء على الدولة المملوكية والدولة الصفوية لأنه أدرك خطورة التوسع في أوروبا بسبب تفوقها الحضاري والعسكري على العثمانيين، وهذا قول لا يثبت أمام الحجج السليمة فالقول بتفوق الدول الأوربية حضاريًا وعسكريًا خلال تلك الفترة في بداية القرن السادس عشر لا يمكن القطع به، خاصة وأن الغرب هو من قسم العصور التاريخية وربط بداية العصر الحديث ونهاية العصور الوسطى بهزيمتهم أمام الدولة العثمانية في معركة القسطنطينية عام 1453 وتمكن السلطان العثماني محمد الفاتح من فتح القسطنطينية وجعلها عاصمة ومقر لإمبراطوريته الكبيرة، والفارق الزمني بين تحول سليم في بداية القرن السادس عشر نحو الشرق وفتح القسطنطينية لا يتعدى ثلثي القرن وهي فترة زمنية لا تكفي لأحداث تلك النقلة.
سليم الأول 1512-1520
أمر آخر أن ذلك الإدعاء بأن سليم الأول خاف من التقدم الحضاري والعسكري لدى أوربا أمر لا يستقيم مع التاريخ المعروف والمتداول، فقد تولى ابن السلطان سليم الأول السلطان سليمان القانوني الحكم بعد وفاة أبيه ولم يتوقف سلمان القانوني عن الفتوحات والمعارك في قلب قارة أوربا، فقد دخل عاصمة صربيا مدينة بلجراد عام 1521 وضمها لأملاك الدولة العثمانية، وضم مدينة بودابست عاصمة المجر عام 1526ومكث بها ثلاثة عشر يوم ينظم أمورها، وحاصر فيينا عاصمة النمسا مرتين عام 1529 و 1532، وفي عهد حققت الدولة العثمانية انتصارًا بحريًا كبيرًا على تحالف أوربي في معركة "بروزة" عام 1535 في خليج أكتيوم بالقرب من ميناء بريفيزا غربي اليونان، وكان لأهمية هذا النصر أن اعتبر بمثابة يوم البحرية العثمانية.
الفونسو دي البوكيرك
رأى الأوربيون في سليمان القانوني خطرًا أشد عليهم من صلاح الدين الأيوبي، وكان يوم وفاته في 7 سبتمبر 1566 كان من أعياد النصارى في أوربا، وقد مات في أرض المعركة محاصرًا لحصن "سيكتوار" وهو أحد الحصون المنيعة التي كانت بداية خطته لفتح "فيينا" عاصمة النمسا، إذن أين هؤلاء المدعون بأن سليم تحول للشرق خوفًا من التقدم الحضاري والعسكري لأوربا، وها هو ابنه يدك معاقلهم ويفتح عواصمهم، وتدين له ألمانيا وبولونيا والمجر وصربيا ويدفعون له الجزية وهم صاغرون، وللدلالة على وهن كلام هؤلاء المدعون أن سليم الأول عند وفاته ترك دولة مساحتها 6.5 مليون كم2 في حين أن سليمان القانوني ابنه ترك دولة مساحتها ضعف مساحة دولة والده، أضف إلى هذا أن أول معركة منى بها الجيش العثماني منذ عام 1071 كانت عام 1683 أمام أسوار فيينا، وأول معركة يهزم فيها الجيش العثماني وعلى رأسه السلطان منذ هزيمة أنقرة كانت عام 1697 وتوقيع معاهدة كارلوفجا التي كانت بداية التحول في مسار الدولة العثمانية كقوة كبرى، وتقرر أن تتوقف المراسلات العثمانية لملوك وحكام أوربا عن مخاطبتهم بلقب "أنت" وتقرر استخدام ألقاب تشير إلى الاحترام والتقدير بعد أن حرموا منها لقرون.
سليمان القانوني 1520-1566
هذه التحولات أتت بعد أن فتح سليم الأول الشرق بهزيمته للدولة الصفوية ودخوله عاصمتها تبريز بعد موقعة جالديران عام 1514، واستيلاءه على بلاد الشام ومصر وقضاءه على الدولة المملوكية بعد موقعتي مرج دابق والريدانية عامي 1516 و 1517، وذلك بأكثر من 170 عام، ظلت فيها الدولة العثمانية الدول الأقوى والدولة الأولى على ساحة ومسرح العالم السياسي،
إذن ما هي حقيقة وراء تحول سليم الأول نحو الشرق؟ الحقيقة لا تخرج عن كون أن الدولة العثمانية قررت أن تتولى زمام المبادرة وحماية العالم الإسلامي واعتبرت نفسها الدول القادرة على صد ذلك التغول الأوربي وسعيهم الدائم على محاصرة العالم الإسلامي من الجنوب واختراق المياه الإقليمية للعالم الإسلامي في الخليج العربي والبحر الأحمر، وكما قامت بأسر تجارتهم وثرواتهم من خلال طريق رأس الرجاء الصالح فقد سعت إلى احتلال أراضيهم بشكل مباشر.
كان هجوم سليم الأول على الدولة الصفوية يرجع لعدة دوافع يأتي من ضمنها الدافع المذهبي فالصفويين شيعة والعثمانيين سنة، لكنه رغم أهميته ليس الدافع الأهم فهناك دوافع سياسية واستراتيجية واقتصادية فقد تعاملت الدولة الصفوية مع البرتغاليين، رأس حربة العالم الغربي وقتذاك، على حساب العالم العربي والإسلامي ولم يكن لديها مانع في أن تقيم في جزيرة هرمز حصنًا لها مقابل جزية، ولم تدافع عن محاولات البرتغال الإستيلاء على البحرين والقطيف، كذلك جانب اقتصادي من خلال تخليص العراق من قبضة الصفويين التي تعد مصدر رئيس من مصادرهم الغذائية وقطع طريقهم إلى الخليج العربي لقطع تواصلهم مع البرتغاليين.
هذا عن الصفويين ودولتهم، فماذا عن المماليك ودولتهم في مصر والشام؟ كان المماليك على وفاق منذ فترة طويلة مع العثمانيين وكانت دولة المماليك تحتفل بانتصارات العثمانيين (https://ymowad.blogspot.com/2018/10/blog-post.html) (راجع مقال حينما كانت القاهرة تحتفل بانتصارات آل عثمان)، لكن الحقيقة أن عجز دولة المماليك أصبح واضحًا عن مسايرة التقدم ووتيرة الأحداث المتزايدة، فكانت هزيمتهم في موقعة ديو البحرية على يد البرتغاليين عام 1509 ضربة موجعة أضيفت إلى ما تلقوه من تحويل تجارتهم عبر أراضيهم إلى طريق رأس الرجاء الصالح فأضافت الهزيمة العسكرية عبئًا ثقيلًا ضاعف الهزيمة الاقتصادية، فخلال عقدين من الزمن تراجعت قوة الدولة المملوكية من المكانة الثانية بعد العثمانيين إلى الثالثة بعد أن حلت الدولة الصفوية محلها في منطقة الشرق الأوسط، وكان عوزها الدائم للأسلحة التي كانت تستوردها من الدولة العثمانية نقطة ضعف خطيرة في قوتها العسكرية، الأمر الذي وضعها في مأزق حينما أصبحت في مرمى قصف الدولة العثمانية ذاتها.
وتجدر الإشارة إلى أن البرتغاليين فكروا في احتلال المدينة المنورة والاستيلاء على جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم واستخدامه جسده الشريف وسيلة للمقايضة مع الدول الإسلامية لتمكينهم من أراضيهم واستباحتها مقابل إعادة جثمانه، وكان هذا الأمر لا بد من التصدي له، ولم يكن هناك دولة قادرة على ذلك من الدولة العثمانية، ومما يذكر للدولة العثمانية بعد أن سادت وأخضعت لسيطرتها الدولة المملوكية وأملاكها في الحجاز والشام وأسست ولاية الحبش على الساحل الشرقي لقارة أفريقيا على البحر الأحمر وصلت التجارة ومكاسبها لما كان عليه الأمر قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
كان العثمانيون يعتقدون أنهم الأولى بالمكانة التي يتمتع بها سلاطين الدولة المملوكية وكانوا ينظرون إليهم باعتبارهم عبيد وأنهم يسيطرون على ثلاثة مدن مقدسة "مكة والمدينة والقدس" وهي مكانة لم يعودوا يستحقونها، فالعثمانيون هم الذين يقتلون ويُقتلون ويدافعون عن الإسلام متقلدين سيف الإسلام بينما المماليك يتمتعون في القاهرة باسم الإسلام، أضف إلى ذلك أنهم لم يستجيبوا للدولة العثمانية للوقوف إلى صفها في صراعها ضد الدولة الصفوية التي تختلف عنهما في المذهب، بل إنهم لم يأخذوا موقفًا من أمير إمارة "ذي القدر" المملوكية حينما هاجم مؤخرة الجيش العثماني في طريقه لمواجهة الدولة الصفوية، ووجهت التهمة لقنصوه الغوري بأنه أثنى على ما فعله "علاء الدولة" أمير إمارة ذي القدر، في ظل وجود اتفاق بين المماليك في القاهرة والصفويين في تبريز في الوقوف سويًا ضد العثمانيين، خاصة وأن كلاهما رأى أن هزيمة العثمانيين لأحدهما يعني هزيمة الآخر، وهو ما حدث بالفعل.
كما أن جهود الدولة العثمانية في المشاركة في نقل المسلمين من بلاد الأندلس التي سقطت في يد فرديناند وإيزابيلا وحماية بلاد شمال أفريقيا من محاولة الأسبان والبرتغال من مد نفوذهما إليها وإخضاعها تحت إمرتهم، فكان إنقاذ دولة تونس والجزائر على يد الأخوين بربروسا خير الدين وعروج، فقد آثر الحفصيون الاستمرار في ملكهم في تونس في ظل الحماية الإسبانية ورغم الحيلولة دون ذلك على يد خير الدين باربروسا عام 1534 إلا أن شارل الخامس تمكن من تونس وسيطر عليها حتى عادت مرة أخرى للسيادة العثمانية عام 1574، وقبل تونس تمكن سليمان القانوني من إنقاذ طرابلس "ليبيا" ومسلميها من سيطرة فرسان مالطة عام 1551
خير الدين باربروسا1470-1546
وأود أن أختم بفكرة مشروع راود الصدر الأعظم "محمد صوقوللو باشا" (1564-1579) فقد فكر هذا النابه في حفر قناة تصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط بشكل مباشر، وكذلك ربط نهري الدون والفولغا وإن لم يتحقق المشروعين فإنه يدل على نباهة الرجل وسعة أفقه، ولم يتوقف الأمر عند صوقوللو باشا بل إن السلطان العثماني "مصطفى الثالث" (1756-1774) فكر في بعث المشروع من جديد لكن المصاعب التي تعرضت لها الدولة في عهده حالت دون تنفيذه، ففي عهده عقدت معاهدة "كوجوك قاينارجا" عام 1774 وفيها تراجعت الدولة العثمانية للترتيب الرابع بين الدول الكبرى، ومن ثم فإن الأسبقية لا ترجع إلى علماء الحملة الفرنسية، أو  جماعة سان سيمون الذي كان أحد أتباعها فرديناند دي ليسبس الحاصل على امتياز حفر القناة من سعيد باشا حاكم مصر، بل لا يمكن استبعاد أن الفكرة قد سرقت من أصحابها العثمانيين، خاصة وأن القناصل وقتذاك كانوا بمثابة جواسيس لدولهم في زي دبلوماسي، وتقارير المسيو  سانت بريست سفير فرنسا في الأستانة، والمسيو مور قنصل فرنسا في الإسكندرية والحملة الفرنسيةعلى مصر أكبر دليل على ذلك.

   



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"