الديون المصرية؛ بين القرنين التاسع عشر والعشرين
الديون المصرية
بين القرنين التاسع عشر والعشرين
طبقًا للجنة التصفية التي عقدت عام 1880 فإن إجمالي الديون المصرية
الخارجية بلغت 98.4 مليون جنيه، كان نصيب سعيد باشا منها 18 مليون والباقي يعود
إلى الخديو إسماعيل، كانت الديون في عهد إسماعيل حتى عام 1876 بمجئ صندوق الدين
تبلغ 91مليون جنيه بما فيها ديون الخديو الخاصة، وخلال الأربع سنوات التالية حتى
صدور قانون التصفية زادت قرابة سبعة ملايين، والكارثة لا تتمثل في حجم الديون فقط،
ولكن في خدمة ذلك الدين ممثلة في حجم الأقساط السنوية والفوائد والتي قدرت بأكثر
من 6 ملايين جنيه، وهو ما يمثل 80% من إجمالي إيرادات الدولة في تلك السنة أي 7.5
مليون جنيه.
![]() |
الوالي محمد سعيد باشا 1854-1863 |
زاد حجم الدين خلال فترة الاحتلال البريطاني ليصل إلى 116 مليون جنيه وذلك
حتى عام 1900، وقدر أن مصر قامت بدفع حوالي 145 مليون جنيه خلال الفترة من 1886
حتى 1914 وذلك لإنقاص دينها إلى 86 مليون جنيه، ومعنى ذلك أن مصر من أصل ديونها 30
مليون فقط والباقي 115 مليون جنيه خدمة الأقساط السنوية وفوائد الدين، الأمر الذي
يشير إلى أن مصر أصبحت مصدر مالي رئيس لأصحاب الدين خاصة إنجلترا وفرنسا خلال تلك
الفترة، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى استطاعت مصر أن تحقق فائض مالي قدره 139
مليون جنيه، وكان من الممكن أن يحقق هذا المبلغ رواج اقتصادي لمصر ويحميها من وطأة
الكساد العالمي الكبير الذي ظهر في نهاية العشرينيات، لكن ابتلع الدين هذا المبلغ،
ورغم هذا لم تستطع مصر إلا أن تسدد 47 مليون جنيه فقط لينخفض إجمالي الدين من 86
مليون إلى 39 مليون جنيه، وباقي الأموال ذهبت كذلك لخدمة أقساط وفوائد الدين
السنوية.
![]() |
الخديو إسماعيل 1864-1879 |
وقد تمكنت مصر من التخلص من دينها بشكل نهائي في أثناء الحرب العالمية
الثانية حيث تم إلغاء صندوق الدين عام 1940، ومستفيدة من الفوائض المالية التي حققتها
في ظل وجود قوات الحلفاء، بلغ حجم ما أنفقته بريطانيا بمفردها 314 مليون جنيه،
وبجهود أمين عثمان وزير المالية المصري والقريب من الإنجليز تم تمصير الدين المصري
وتخلصت مصر من ديونها تمامًا عام 1943، وتحولت من دولة مدينة إلى دولة دائنة
لبريطانيا بمبلغ 340 مليون جنيه، ولكنها كما عانت وهي دولة مدينة في تسديد ما
عليها عانت كذلك وهي دولة دائنة في الحصول على مستحقاتها المالية، يمكن القول أنه
بحساب خدمة دين سنوي 7% فإن إجمالي ما دفعته مصر خدمة للدين يصل إلى 450 مليون
جنيه، وبإضافة أصل الدين 116 مليون جنيه فإن مصر دفعت ما يزيد عن نصف مليار جنيه خلال
57 عام لسداد ديونها التي عقدتها على مدى عقدين في النصف الثاني من القرن التاسع
عشر.
يشير الدكتور "جلال أمين" في كتابه "قصة الاقتصاد المصري من
عهد محمد علي إلى عهد مبارك" إلى أن هذا الديون التي تحملتها مصر خلال عهدي
سعيد وإسماعيل لم تكن بشكل أساس تعود إلى سعار هذين الحاكمين في الاستدانة ورغبتهم
في إقامة العديد من المشاريع والبنية التحتية وكذلك بناء العديد من القصور والسرايات
والرغبة في امتلاك المزيد من الأراضي وضمها إلى أملاكهم، ولكن الأمر يذهب بعيدًا
إلى وجود فوائض مالية لدى الدول الأوربية كانت تسعى إلى تصديرها إلى ما وراء
البحار، خاصة وأن مدخرات هذه الدول قد عبئت داخل البلاد وبدأت تنضب فرص الاستثمار
المجدي داخلها مع الانتهاء من مد خطوط السكك الحديدية في داخل بريطانيا وفرنسا،
إضافة إلى التنافس الذي استشرى بينها في البحث عن مواطئ أقدام لها تدعم وتعزز
وجودها السياسي والاقتصادي والخوف من أن يسبقها غيرها.
وعليه فإن الدكتور "جلال أمين" أشار إلى أن محمد علي لم يتجه إلى
الديون والإستدانة لتحقيق تنميته كون هذه الدول لم يكن لديها مثل هذه الفوائض في
وقت بناء محمد علي دولته، وذلك لأن أموال هذه الدول وقتذاك كانت مستوعبة بكاملها
في داخل حدودها ولم يكن لديها فائض توجه خارج بلادها، وإن وجد فائض فكان يتم توجيهه
إلى الأمريكتين حيث مزارع القصب والتبغ والمناجم، ورغم ذلك فإنه يشير إلى أن محمد
علي عُرض عليه الحصول على بعض القروض عام 1833 لتمويل حملته على الشام وذلك بضمان
إيراد بعد المديريات المصرية ولكنه رفض رفضًا باتًا، وآثر أن يضغط في بعض السنوات
على أن يتعرض لهذا الفخ.
ويتضح من ذلك تاريخيًا أن مصر فيما بين عامي 1805 حتى عام 1861، أي أكثر من
نصف قرن قليلًا، كانت دولة تتميز بفائض مالي في أغلب سنواتها ولم تذهب إلى
الإستدانة من الخارج إلا مع عام 1862 لتظل في معاناة من ديونها حتى عام 1943، أي
ما يزيد عن ثلاثة أرباع قرن، وتظل مصر بعيدة عن الديون لفترة تصل إلى عقد ونصف
العقد تقريبًا لتبدأ مرة أخرى مع ديون عبد الناصر عام 1958، لتحقيق أهداف ثورة
يوليو من قطاع صناعي وتثوير زراعي وبنية تحتية ومد شبكة الكهرباء والمياه تحقق ما
استهدفته الثورة، يرجع توقف مصر إلى الاستدانة خلال الفترة الأولى من ثورة يوليو
إلى وجود فوائض مالية كبيرة متراكمة منذ الحرب العالمية الثانية، أضف لهذا انشغال
الدولة الجديدة بتثبيت أركان نظامها الجديد في الداخل، وعدم استشراء جوانب
الاستهلاك المحلي وزيادة معدلات الإنفاق الحكومي.
بدأت مصر طريق الإقتراض سواء من الإتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة
بآجال طويلة وفائدة بسيطة، حيث وصلت لـ12 عام وفائدة 2.5% من السوفييت، و 30 عام
وفائدة 4% تسدد بالعملة المصرية بالنسبة للقروضة الأمريكية، وقد ارتضت الدولتان في
ظل التوازن العالمي أن تقدم كل منهما لمصر ما تحتاجه، وقد بلغ حجم مديونية
مصر وقت وفاة الرئيس جمال عبد الناصر 5
مليار دولار ، وتتوزيع تقريبًا بالتساوي بين الكتلتين الشرقية والغربية (43، 46%
على الترتيب) والباقي دين لدولة الكويت.
ويرجع الجزء الأكبر من تلك الديون إلى تعثر وتوقف عملية التنمية الاقتصادية
نتيجة لحرب 1967 وما ترتب عليها من خسارة مصر لموارد آبار بترول خليج السويس،
وإغلاق قناة السويس، وتوقف السياحة بنسبة كبيرة، وتهجير سكان مدن القناة، وإعادة
بناء الجيش المصري والتجهيز لحرب جديدة لاسترداد سيناء، ناهيك عن حلول مواعيد سداد
الديون التي كانت قد اقترضتها مصر من قبل، وعلى الرغم من ذلك فإن مبلغ الدين
السابق وهو 5 مليار دولار مبلغ ليس بالضخم في ظل تلك الأعباء الكبيرة، ولا شك أن
للدول العربية والمنح التي قدموها لمصر بعد مؤتمر الخرطوم وبلغت 286 مليون دولار
سنويًا كان لها دورًا كبيرًا في سداد خدمات الديون التي قدرت سنويًا بنحو 240
مليون دولار.
وفي حكم الرئيس السادات (1970-1981) تضخمت ديون مصر لتصل إلى 30مليار دولار
تقريبًا، وإن كان هناك مبرر لزيادة حجم الدين في النصف الأول من حكمه أي ما بين
عامي 1970-1975 من إعادة بناء الجيش والشروع في التجهيز والإعداد للمعركة التي
إنتهت بحرب أكتوبر 1973، واستمرار الأزمات الممثلة في توقف عجلة الإنتاج وتوقف
مواردنا من بترول خليج السويس وقناة السويس والسياحة، فإن الأمر اختلف في النصف
الثاني من حكمه حيث زاد إجمالي الدين على الرغم من أنها فترة شهدت طفرة كبيرة في
موارد مصر الاقتصادية، فقد أعيد افتتاح قناة السويس، وبدأت السياحة تتدفق مرة أخرى
على البلاد، وكذلك زادت مصر من صادراتها البترولية بعودة آبار بترول خليج السويس
وزيادة سعر البترول، وتحويلات العاملين في الخارج، وصادرات مصر السلعية وغير
السلعية، ولكن رغم حالة الرخاء هذه وقعت البلاد في فخ الدين الخارجي مرة أخرى.
يعلل البعض أن هذه الديون أمرًا لا مفر منه تمثلت في السعي لإعادة بناء مدن
القناة وتوطين أهالينا بها مرة أخرى، وزيادة الإنفاق العسكري، لكن السبب الأكبر
وراء تلك الديون هو حالة التوسع الاستهلاكي واستيراد السلع الكمالية، والعجز عن
تصحيح هيكل الإقتصاد المصري ليعتمد على التنمية الصناعية وتطوير الزراعة، وتوجيه
أموال الديون إلى عمليات تدر إنتاجية قليلة لا تغطي تكلفة الاقتراض مثل المرافق
العامة والخدمات التجارية والمالية، وضغوط كان يتعرض لها الحاكم لفرض نمط من أنماط
الاستهلاك يفرض التدخل في المستقبل واستيراد بضائع لا تجد تصريفًا لها في بلادها.
كانت الديون التي تركها الرئيس السادات تبلغ 30 مليار دولار، يدفع لها
سنويًا خدمة الدين 2.9 مليار دولار (1.3 مليار أقساط، 1.6 مليار فوائد)، ما يعادل
28% من إجمالي واردات مصر من العملة الأجنبية المقدرة بنحو 10.5 مليار دولار ، وهذا
الدين يمثل 141% من إجمالي الناتج المحلي لمصر المقدر بنحو 21.5 مليار دولار، كان
من الممكن أن يتم سداد هذا الدين وتمر الأمور بسلام خلال فترة الرئيس مبارك لكن
الذي حدث هو أن معدلات الدخل هذه تراجعت وتقلصت بشدة وذلك نتيجة تراجع أسعار
البترول، وكذلك تراجع تحويلات المصريين في الخارج، ومعدلات السياحة المصرية، الأمر
الذي انتهى بديون بلغت 45 مليار دولار في عام 1986، والمشكلة المزمنة للاقتصاد
المصري هو أن الاستثمار في القطاعات المنتجة إقتصاديًا كالزراعة والصناعة والتي يمكنها
أن تعوض وتسدد قيمة القروض محدودة للغاية، حاولت الحكومة أن تتركها للقطاع الخاص
لكنه كان عاجزًا عن القيام بها، وفضل أن يستثمر في القطاعات المربحة ماليًا
كالقطاع المالي والإسكان، أضف إلى ذلك أن جزء كبير من تلك القروض كان يذهب
للاستيراد بضائع تزيدعن ميثلاتها في مصر، أو تذهب إلى مكاتب استشارية أمريكية كانت
تكلف بمهام تطوير بعض القطاعات كالحال في مشروعي تطوير الصرف الصحي بالإسكندرية
وتطوير ميناء السويس.
كانت حرب الخليج الثانية فرصة لالتقاط الأنفاس وخلاص مصر من عبء كانت ترزح
تحته وهو المتمثل في حجم الدين الذي قدر عام 1990 بنحو 47.5 مليار دولار، يعادل
150% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، أضف إلى ذلك خدمة دين تقدر بـ 6 مليار دولار
سنويًا، لم تتمكن مصر من الخلاص من جزء كبير من دينها ولكنها حصلت كذلك على تعهدات
بمساعدات مالية قدرت بنحو 4.7 مليار دولار من كل من السعودية والإمارات والكويت، وقد
تنازلت الولايات المتحدة ودول الخليج العربي عن ديون لها لمصر قدرها 13.7 مليار
دولار، وفي نادي باريس حصلت على إعفائين من ديونها، تراجعت فيه الديون في الإعفاء
الأول من 47.6 مليار دولار إلى 34 مليار دولار في عام 1991، وإعفاء ثاني تراجعت
فيه الديون إلى 24 مليار دولار عام 1994، أي أن مصر عام 1994تخلصت من نصف ما كان
عليها من ديون قبل أربعة أعوام.
![]() |
من اليمين رئيس العراق صدام حسين، الرئيس المصري حسني مبارك، ملك الأردن حسين بن عبد الله الرئيس اليمني علي عبد الله صالح |
ومن غرائب القدر أن الديون في أواخر عهد الرئيس مبارك لم تكن مشكلة ملحة
فقد حدث ثبات نسبي للدين المصري ولم يزد إلا زيادة طفيفة حيث ارتفع إلى ما يقارب
30 مليار دولار، وقد يرجع ذلك إلى تحسن ميزان المدفوعات المصرية الناتج عن فوائض
تحويلات المصريين في الخارج، وارتفاع أسعار البترول، وعوائد قناة السويس والسياحة،
والأمر الآخر ضبط معدلات الاستيراد، ولكن رغم ذلك تراجع بشدة معدل نمو الناتج
القومي، واتجهت الدولة إلى تسريع سياسة الخصخصة التي أدت لمزيد من معدلات البطالة،
وزيادة الفوارق الطبقية والاجتماعية، والتي كانت أحد أسباب ثورة 25 يناير ونهاية
حكم الرئيس مبارك.
تعليقات
إرسال تعليق