حينما كانت القاهرة تحتفل بانتصارات آل عثمان
حينما كانت تحتفل القاهرة بانتصارات آل عثمان!!
مصر المملوكية وتركيا العثمانية...
من المفارقات التاريخية أن مصر المملوكية وتركيا العثمانية كانتا دولتان
تركيتان، أي أن حكام كل منهما ينتمون للقبائل التركية التي كانت تعيش في وسط قارة
آسيا وتتحرك نحو الغرب إلى الجنوب والشمال من بحر قزوين، بل ويمكن أن تزداد
المفارقة إذا علمنا أن الدولة الصفوية والتي كانت تمثل الدولة الثالثة الكبرى في
منطقة العالم الإسلامي في القرن السادس عشر، إلى جانب دولتي المماليك وآلعثمانية،
كانت كذلك من أصول تركية لأن المؤسس إسماعيل الصفوي ينتمي للقومية التركية، سواء
من جهة الأب حيث الشيخ صفي الدين الأردبيلي أو من جهة الأم فهي أخت حسن أوزون حاكم
إمارة آقويونلو التركية.
في الوقت الذي كانت الدولة الأيوبية (1174-1250)، والأيوبيون أكراد تربوا
ونشأوا في كنف الدولة الزنكية التركية أحد فروع السلاجقة، تبني في مصر جيشًا
جديدًا بشراء هؤلاء الأتراك صبية صغارًا وتربيتهم تربية دينية وعسكرية ليصبحوا
درعًا وسيفًا لتلك الدولة حتى وثوبهم على الملك بعد مقتل طوران شاه وتزويج شجرة
الدر لعز الدين أيبك الذي يعد بداية انتقال الملك من الأيوبيين للمماليك، كانت
تتحرك قبيلة قايي التركية بزعامة سليمان شاه نحو الغرب في منطقة شرق الأناضول
ليغرق في نهر الفرات، ويخلفه ابنه آرطغرل الذي أصبح أحد قادة السلطان السلجوقي
علاء الدين كيقباد خاصة بعد أن قادته المقادير ليكون نصيرًا له في أحد المعارك،
معركة المرج الواسع 1230، ضد السلطان جلال الدين منكبرتي الخوارزمي الذي أجلاه
المغول عن أرضه وعرشه في إيران.
مع سقوط بغداد في قبضة المغول يوم 10 فبراير عام 1258 كان أرطغرل يحتفل
بمقدم ابنه عثمان الذي تسمت الدولة على إسمه والذي بدأ سلسلة طويلة من الملوك
حولوا الدولة من مجرد إمارة صغيرة إلى دولة عالمية حتى حملت لقب الخلافة لقرابة
أربعة قرون، ومع تحقيق مصر المملوكية بقيادة قطر انتصارها على المغول في عين جالون
1260 كان ارطغرل العثماني يبني إمارته الصغيرة بالتوسع على حساب الدولة البزنطية، وفي
الوقت الذي كانت تلك الإمارة القايية الصغيرة لا تزيد عن كونها إمارة حدودية لدولة
السلاجقة، فإن دولة المماليك كانت تواجه أخطار جمة تمثلت في مقاومة الصليبيين
واسترداد الإمارات التي أسسوها في بلاد الشام حتى تمكنوا من طرد الصليبيين من
مدينة عكا عام 1291 آخر معاقلهم في بلاد الشام.
كانت هناك ميزة للدولة العثمانية في مقابل دولة المماليك ساهمت بشكل كبير
في نموها وازدهارها حتى أصبحت الدولة الأولى بلا منازع، وهذه الميزة تمثلت في أن
الحكم في الدولة العثمانية كان حكمًا وراثيًا يتوارها الآباء عن الأبناء، وفي
بداية الأمر لم يكن شرطًا أن يكون الحاكم هو الابن الأكبر بل كثيرًا ما تم تخطيه
ليصبح الحاكم الابن الثاني في ترتيب السن، وذلك كونه الأقدر على الحكم، فعثمان
نفسه الذي تسمت الدولة باسمه لم يكن الابن الأكبر لارطغرل، محمد جلبي وإن استدعى
الموقف حروبًا بين الإخوة، فإن الجيش الإنكشاري كان دائمًا ما يحسم الصراع بوقوفه
إلى جانب من يرى فيه الكفاءة والقدرة، في المقابل فإن المماليك لم يكن بينهم رابط
غير أنهم تربوا في بيت أستاذ واحد أو أنهم يتبعون فريق معين، وبالتالي كان القتل
والتخلص من بعضهم في سبيل الوصول للحكم ديدينهم الأمر الذي فت في عضدهم ولم يمكنهم
من استدامة قوتهم التي استنزفها الصراع المتواصل بين فرقهم، ويمكن القول أن البيت
القلاووني يؤكد ذلك فهو الاستثناء وليس الأصل.
دولة المماليك في اقصى اتساعها |
في الوقت الذي كانت دولة المماليك تتصارع في بيئة الشرق الأدنى مع دول
وممالك إسلامية مثل دولة المغول، فإن دولة آلعثمان كانت تتصارع في بيئة مختلفة حيث
الدولة البيزنطية الأمر الذي أكسب حكامها لقب غازي ومجاهد وأكسبهم احترامًا كبيرًا
لدى شعوب العالم الإسلامي، مما جعل العالم الكبير "بن خلدون" يتنبأ في عهد
بايزيد يلدريم "الصاعقة" وقبل وقوع مصر في قبضة سليم الأول عام 1517
بأنه "لا خطر على مصر إلا من بني عثمان" وذلك عام 1493 فقد تنبأ ذلك
العالم بمصائر الأمور في تلك المنطقة، وببصيرة ثاقبة رسم مستقبل الدولتين بناء على
دراسته الخاصة بدورة حياة الدولة من نشأة ونضح وثبات واضمحلال مركزًا على عوامل
نمو وازدهار الدول وكذلك عوامل واسباب فنائها.
كانت مصر تحتفل بانتصارات بني عثمان على البزنطيين عام 1453 بفتحهم لمدينة
القسطنطينية وتحقيق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم " لتفتحن
القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"،
فقدأنيرت القاهرة ثلاثة أيام بلياليها ابتهاجًا بهذا الفتح والنصر المبين، وأرسل سلطان
مصر وقلتها الأشرف إينال الرسل لتقديم التهاني والهدايا. كان الفارق واضحًا بين
دولة ترسم طريقها في أوربا لبناء إمبراطورية عالمية وبين أخرى لا تكد تختار حاكمها
حتى يخرج عليه بعض الفرق العسكرية ليجبروه على التنحي لآخر ويسجنوه أو يقتلوه رغم
أن جثمان سيدهم الذي أقسموا له في حياته على الوقوف إلى جانب إبنه لم يبرد بعد.
نظر محمد الفاتح إلى الماليك في مصر باعتبارهم عبيدًا شركسيين لا ينحدرون
من أوغزخان "القبيلة الأم للأتراك"، بالإضافة إلى ذلك فإن دولة المماليك
تحتفظ بالخلافة وتسيطر على ثلاثة مدن إسلامية مقدسة مكة والمدينة والقدس، تدعي
بأنها دولة الإسلام ومن الجائز أن ذلك كان كذلك، لكن تركيا الآن بعد أن قدمت أربعة
ملايين شهيد على مدى أربعة قرون منذ ملاذكرد عام 1071 تستحق بأن تكون خليفة بني
سلجوق الذين هم أسياد الأتابكة الذين هم
أسياد الأيوبيين الذين هم أسياد المماليك، وأن العثمانيين تقلدوا سيف الإسلام
بينما المماليك يتمتعون بفضل الإسلام، ولم يكن المماليك بالقاهرة على علم بهذه
الأفكار واستمروا على محبتهم للعثمانيين حتى جاء الدور عليهم، ذلك ما كان يدور في
ذهن الديوان العثماني ومحمد الفاتح في الوقت الذي احتلفت فيه القاهرة ثلاثة أيام
متواصلة عام 1456 عند التأكد من أن خبر وفاة الفاتح بمرض الطاعون كان كذبًا.
ساند العثمانيون المماليك في صراعهم ضد البرتغاليون في المحيط الهندي
وقدموا لهم الكثير من المساعدات العسكرية والخبرات الفنية في مجال البحرية
والمدفعية، فقد وضعت الدولة العثمانية كفاءتها البحرية بقيادة عروج ريس وكمال ريس
وسليمان ريس وغيرهم إما قد التحقوا بالبحرية المملوكية أو كانوا مستشارين لبناء
قدراتها البحرية والعسكرية مرة أخرى، وفي عهد يزيد يلدريم تم تزويد دولة المماليك
ب400 مدفع وكميات هائلة من البارود والنحاس، لكن كل ذلك لم يشفع لدولة المماليك أن
تنتقل من المركز الثاني كقوة عسكرية إلى المركز الثالث بظهور الدولة الصفوية، كذلك
تراجعت قدراتها الاقتصادية مع عملية الأسر البحري والتجاري التي قامت به دولة البرتغال
بتحويل طريق التجارة بين الشرق والغرب المار بمصر وأملاكها في الحجاز والشام إلى
طريق رأس الرجال الصالح.
كان المماليك في مصر يقدرون الدولة العثمانية ويقدرون مكانتها العسكرية
وروحها الجهادية ضد أوربا، وكانوا يدركون الفارق فيما بين الدولتين لذا فإن
محاولات العثمانيين لجر المماليك للحرب لم تنجح خاصة وأن قايتباي بذكاءه يدرك أن
المنازلة ليست في صالحه وكان يرى أنه من الأسلم أن يكون الصراع محدود، وطلب من
السلطان الحفصي في تونس يحي الثالث صهر السلطان العثماني بايزيد الثاني أن يتدخل
لكي يعود الأمور إلى نصابها في منطقة التخوم الفاصلة بين الدولة المملوكية والدولة
العثمانية، لكن هذا الصراع حرم الدولة المملوكية من التزود بالسلاح والاحتياجات
العسكرية من الدولة العثمانية وحرمها آل عثمان من المدافع والبارود والنحاس الأمر
الذي انعكس على قدراتها العسكرية في المواجهة القادمة.
![]() |
الدولة العثمانية في بداية حكم عثمان الأول ونهايته |
لقد انبهر حكام المماليك في مصر قبل شعبها من ذلك الإنجاز الذي حققه
العثمانيون في الأناضول وفي جنوب شرق أوربا، لم تكن مساحة الدولة العثمانية مع
بداية القرن السادس عشر تزيد عن مساحة الدولة المملوكية كثيرًا (2.25 مليون كم2)
لكن الفارق بين الدولتين عظيمًا، فقد ورث المماليك تلك الدولة عن الدولة الأيوبية
وما أضافوه عليها سرعان ما كان يذهب لصالح المغول أو بقايا السلاجقة في شمال
العراق وسوريا، لكن الدولة العثمانية بدأت من إمارة صغيرة لا تزيد مساحتها عن
1000كم2 ، نعم ألف كم2، وذلك عام 1230 لتصبح أكثر من 2
مليون مرة قدر ما كانت عليه في غضون ثلاثة قرون، بل إنها ستصبح أضعاف أضعاف تلك
المساحة مع توسعها في المشرق العربي بضمها لدولة المماليك في الشام ومصر والحجاز
بعد معركتي مرج دابق 1516 والريدانية 1517، وضمها كذلك لليمن وشمال أفريقيا وتبعية
قبائل الخليج العربي لها، وسيطرتها على أجزاء كبيرة من الدولة الصفوية، وتأسيسها
لإمارة حبش في الساحل الشرقي لأفريقيا لتشمل الصومال وارتيريا وجزء من بلاد الحبشة
الأصلية، وتوسعها في آسيا وفي أوربا لتصبح مساحتها 23 مليون كم2، أي
أنها كانت أكبر من دولة الاتحاد السوفيتي السابق التي كانت أكبر دولة من حيث
المساحة حتى عام انهياره وتفكك الاتحاد السوفيي عام1991، ولا يدخل ضمن هذه كافة
الأقطار والمناطق التي وصلتها كتائب الصاعقة والقراصنة وتمكنوا من الاستيلاء عليها
ودخلت ضمن سيطرة ونفوذ الدولة العثمانية.
توقف المماليك على الانبهار ولم يستطيعوا أن يسايروا حركة العالم لم يضيفوا
إلى قوتهم لم يطوروا أنفسهم لقد كان الفارق العسكري بين قوات المماليك والعثمانيين
في معركتي مرج دابق والريدادينة نصف قرن على أقل تقدير، والسبب في تجسير تلك الهوة
العثمانيون أنفسهم من خلال المدافع التي كانوا يقدمونها للماليك في صراعهم ضد
البرتغاليين في المحيط الهندي، لا ننكر أن تلك طبيعة الأمور وأن الدول تمر في
أدوار النمو والازدهار ثم الاضمحلال، لكن الفارق بين الدول في طول تلك الفترة
ووضعها خلالها، لقد كانت دولة المماليك رغم دورها التاريخي مجرد ولايتين
"ولاية الشام وولاية مصر" وملحقات في الحجاز واليمن وبلاد النوبة، لا يمكن
أن نقارن بين مساحة دولة المماليك 2.25 مليون كم2 بمساحة دول آلعثمان
23 مليون كم2، كذلك ثمة فارق كبير بين تاريخ واستمرار الدولتين فالدولة
المملوكية بدأت عام 1260 وانتهت 1517 أي قرنين ونصف القرن، في حين نشأت الدولة
العثمانية كدولة مستقلة على يد عثمان عام 1299 حتى 1922 أي ستة قرون وربع القرن،
كذلك لا يمكن أن نقارن بين ضخامة المجهود والدم المبذول من جيوش آلعثمان في أوربا
بما بذله المماليك في صراعهم ضد الصليبيين والمغول، لكن ذلك لا يقلل من كونهم حموا
بيضة الإسلام في منطقة المشرق العربي وأبقوا عليها مصانة وآمنة.
ليت الزمان يجود علينا بمثل تلك الدول الفتية التي استطاعت أن تجابه
الأخطار وتنازلها وتنتصر عليها، وترفع لواء الإسلام عاليًا في صراع كان ولا يزال
صراع حضاري ثقافي يختال فيه الغرب حاليًا علينا بتفوقهم واعتلائهم موجة المد
الحضاري، لكننا في انتظار انحسار جزرنا وإننا لقادمون مع موجة مد عاتية تالية.
![]() |
توسع الدولة العثمانية فيما بين القرنين ال14 و 17 |
تعليقات
إرسال تعليق