حرب أكتوبر 1973، مصر بين خيارين "إقليمي" و "قومي"
حرب أكتوبر 1973
مصر بين خيارين "إقليمي" و "قومي"
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الـخامسة والأربعين لانتصار مصر على إسرائيل
في حرب السادس من أكتوبر، وتعد هذه الحرب واحدة من الحروب المؤثرة بشكل كبير في
حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط، بل إنها تعدتها لتكون بمثابة نموذج لحرب تدرس في
العديد من الكليات والمدارس الحربية على مستوى العالم، ويقال أن إقالة رئيس الولايات
المتحدة الأمريكية ريتشارد نيكسون كان أحد توابع هذه الحرب الكبرى وإن تم التغطية
على إقالته بأنها جراء فضيحة "ووتر جيت"، وهو أمر لا يزيد عن فضائح كل
من الرئيس الأسبق "كلينتون" والرئيس الحالي "ترامب" ورغم ذلك
فقد استمر الأول في منصبه ولا زال الثاني يمارس مهامه.
كلما أطلت علينا ذكرى تلك الحرب الطيبة كلما تمنيت أن كانت تلك الحرب قد
انتهت يوم 14 أكتوبر من عام 1973، فخلال تلك الفترة كانت أحداث الحرب على الجبهة
في شرق وغرب القناة لصالح قواتنا المصرية، فمع بداية أعمال القتال الساعة الثانية
ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر حتى يوم 14 من نفس الشهر كانت القوات المصرية قد
استطاعت أن تحقق ما وصفه البعض بالمعجزة، فقد تمكنوا من عبور واحد من أصعب الموانع
المائية، وتحطيم خط بارليف بنقاطه الحصينة واجتياز الساتر الرملي الذي كان يقف
كالحائط بارتفاع 20 متر وزاوية ميل تتراوح بين على الضفة الشرقية للقناة، الأمر الذي جعل موشي
ديان يتساءل عن كيف حقق المصريون تلك المعجزة خاصة وأنهم كانوا يعتقدون أن عبور
تلك الموانع كانت بحاجة لكل من سلاح المهندسين الخاص بالاتحاد السوفيتي والولايات
المتحدة الأمريكية وربما يفشلان في الاختراق، أضف إلى ذلك تلك النيران التي كان من
المقرر أن ترتفع فوق سطح مياه قناة السويس إذا ما حاولت القوات المصرية عبورها.
كأن جنودنا يعزفون سيمفونية رائعة وفي تناسق نادر أن يتكرر، ليته وافق
الفريق أول سعد الدين الشاذلي على تسجيل تلك الحرب لكنه دواعي السرية والتأمين
العسكري حرمتنا من مشاهدة أعظم الإعجازات البشرية وأدقها على مدى التاريخ. في خلال الساعات الخمسة الأولى من الحرب كان لدينا
45 كتيبة على الضفة الشرقية تتكون من 2000 ضابط و 30000 جندي، وتمكنت فرق
المهندسين من فتح أول ثغرة في الساتر الترابي بعد اربع ساعات من بدء الحرب، وبحلول
الساعة العاشرة والنصف مساءًا من اليوم الأول كان قد تم فتح 60 ثغرة في الساتر
الترابي وإتمام بناء 8 كباري ثقيلة، و4 كباري خفيفة، وبناء وتشغيل 31 معدية،
وبحلول الساعة الثامنة من صباح يوم الأحد كانت قواتنا قد حسمت معركة القناة، فعبرت
أصعب مانع مائي وحطمت خط بارليف في 18 ساعة، وهو رقم قياسي لم تحققه أي قوة حربية
في التاريخ، وذلك بأقل الخسائر تمثلت في 5 طائرات، 20 دبابة، 280شهيد، بنسبة 2.5%
من الطائرات، 2% من الدبابات، و 0.3% من قوتنا البشرية، مقابل ذلك خسر جيش العدو 30
طائرة و 200 دبابة وآلاف الأسرى والقتلى.
استمر هذا الإنجاز حتى يوم 13 أكتوبر حيث كان الهدف من حرب أكتوبر في مصر هو
"تحريك" الوضع العسكري على الجبهة الغربية وعبور قواتنا المصرية
لقناة السويس إلى الضفة الشرقية للقناة وامتلاك الأرض على امتداد القناة لعمق في
أرض سيناء يتراوح بين 10-15كم وذلك كي تظل القوات في مدى الدفاع الجوي الذي يحميها
من سلاح إسرائيل القوي الممثل في الطيران، والعمل على استنزاف العدو بشكل يطيل أمد
الحرب ويرهق ويكبد إسرائيل الكثير خاصة وأنها في مثل تلك الظروف لن تتحمل أن تظل
في حالة تعبئة عامة، خاصة وأن إسرائيل تعبئ في تلك الحالة قرابة 20% من شعبها وهي
نسبة لم تصل لها دولة إلا إسرائيل.
لابد أن ندرك أن الحرب هي وسيلة وأداة لتحقيق بعض الأهداف ولكن الهدف
الرئيس لا يتحقق إلا من المفاوضات، وليس هناك دولة إستطاعت أن تمحو دولة أو جيش من
الوجود، وعليه فإن هدف الحرب في أكتوبر 1973 ينقسم إلى هدف تكتيكي وهدف إستراتيجي،
أما الهدف التكتيكي فيتمثل في عبور القناة واحتلال شريط من الأرض يتراوح بين 10-15كم
واستنزاف قوة العدو لأطول فترة ممكنة حتى يسلم، والهدف الاستراتيجي هو الضغط على
إسرائيل سياسيًا وعسكريًا حتى تنسحب من الأراضي العربية المحتلة في يونيو عام 1967.
![]() |
الهجوم المصري على منطقة القناة والعبور للضفة الشرقية |
إذن ما الذي حدث فيما بين يومي 14 حتى يوم وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر؟ (لم تلتزم إسرائيل بقرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار واستمرت تقاتل حتى يوم 24 حتى استطاعت أن تحاصر الجيش الثالث في السويس)، الذي حدث هو أن الوضع على الجبهة السورية في الجولان كان في غاية الخطورة بالنسبة لسوريا وإسرائيل، كان الجبهة السورية أضعف الجبهتين مقارنة بالجبهة المصرية خاصة وأن هضبة الجولان تمثل خطورة إستراتيجية على عمق إسرائيل ومدنها الكبيرة المأهولة، لذا ركزت إسرائيل على جبهة الجولان السورية حتى استطاعت أن ترد الهجوم السوري وتزيحه إلى خط وقف إطلاق النار المحدد بعد حرب يونيو 1967 المعروف بالخط الأرجواني، وأصبح الطريق مفتوح إلى دمشق ولم يكن يفصلها عن مدينة دمشق سوى 40كم، بل من المفارقات أنه كما كان لدينا ثغرة "الدفرسوار" كان لدى سوريا ثغرة "سعسع"
لا يمكن أن ننكر شجاعة الجندي العربي السوري والتضحيات التي قدمها،
والنجاحات التي حققها في اليومين الأولين للحرب، وقد كان الأمر معروف ومقرر من قبل
وهو أن الجيش السوري يستطيع أن يجتاز العوائق الإسرائيلية في هضبة الجولان مثل خط
"إيجال آلون" ذلك الخندق المتعرج الممتد بطول 70كم وعرض أربعة أمتار
وعمق مثلها، ناهيك عن الساتر الترابي وحقول الألغام والأسلاك الشائكة، والقوات
الإسرائيلية المتمركزة وراء هذا الخط، فقد استطاعت القوات السورية اختراق الخطوط
الإسرائيلية في الحسنية جنوب القنيطرة وبدأت تتقدم نحو الطرق التي تربط مرتفعات
الجولان ببحر الجليل. ووصل مجموع الدبابات السورية في موجة للهجوم إلى 500 دبابة
ووصل مجموع القوات السورية على الجبهة إلى 350 طائرة، 1700 دبابة، 1300 بطارية
مدفع، 45 ألف جندي، لكن تركيز إسرائيل على تلك الجبهة السورية لخطورتها
جعلها تعاني.
على الرغم من أن مصر وسوريا دخلتا حربًا واحدًا إلا أن الهدف كان مختلف كان
هدف مصر من الحرب هو تحريك الوضع في سيناء، في حين أن هدف سوريا كان تحرير الجولان،
وبالتالي فالمفارقة هو أنه كان المطلوب من أضعف الجبهتين تحقيق أصعب ما في خطة
الحرب وهو القيام بعملية تحرير، في حين أن الجبهة القوى كان تريد تحريك الوضع
والوصول إلى مرحلة استنزاف من خلال الوقوف في تلك المساحة أو الشقة التي استولت
عليها شرق القناة، والحفاظ على أوضاع قواتنا لأطول فترة حتى تركع إسرائيل.
تطور الوضع في الجبهة السورية جعل مصر أمام خيارين الخيار القومي
والخيار الإقليمي، ضغت إسرائيل بقوة في هضبة الجولان بل أعطت جولدا مائير
الضوء الأخضر لمواصلة القوات الإسرائيلية طريقها نحو دمشق، الأمر الذي جعل سوريا
تنادي الأشقاء فأنجدتها قوات عراقية وأردنية وسعودية ومغربية، ضغط الملك فيصل على
الرئيس السادات وطالبه بتخفيف الضغط الإسرائيلي على سوريا وذلك من خلال تحرك
القوات المصرية نحو منطقة المضايق.
كانت الخطة المصرية الأصلية "المآذن العالية" والتي عُرفت باسم
"بدر" مع بدء الحرب تنتهي عند وصول القوات المصرية لعمق 10-15 كم يمكن
القوات المصرية أن تعمل في ظل الدفاع الجوي المصري الأمر الذي يحميها من يد
إسرائيل الطولى الممثلة في القوات الجوية، وتلك كانت الخطة المصرية العسكرية
الأصلية، وقد كان هناك خطة مكملة أخرى كان يتم المرور عليها مرور الكرام لأن
القيادة العسكرية المصرية لم تكن تضعها في حسبان التنفيذ، وهو أنه بعد وقفة تعبوية
تنتهي بانتهاء عوامل التوقف يتم التحرك نحو منطقة المضايق لاستكمال تحرير سيناء.
حتى صباح 14 أكتوبر كان الوضع في الجبهة الغربية في سيناء على الضفة
الشرقية للقناة لصالح مصر بامتياز، لكن الوضع في الجبهة الشرقية السورية في غاية
التأزم فقد بدأت إسرائيل في يوم 11 أكتوبر اختراقها لخط وقف إطلاق النار
"الخط الأرجواني" وفي طريقها نحو "دمشق" الأمر الذي جعل
الرئيس السادات يتدخل لإنقاذ الموقف وهو كان القرار السياسي قد سبق القرار
العسكري، فأصبحت المصلحة العليا مصلحة إقليمية وليست مجرد مصلحة قومية، ولكن كان
هناك محاولة لتحقيق الهدفين، فقد عمدت القيادة السياسية والعسكرية المصرية ألا
تخسر ما كسبته في الضفة الشرقية في القناة، وفي نفس الوقت المساهمة في تخفيف الضغط
على سوريا.
تمت هذه المعادلة من خلال الدفع بالفرقتين 21، 4 اللذان يمثلان الاحتياطي
الاستراتيجي المصري الذي يحمي الجيشين الثاني والثالث في الضفة الغربية للقناة،
وذلك من أجل الحفاظ على وضع القوات المصرية التي عبرت من قبل خلال الفترة السابقة،
لكن الذي حدث أن هذا الدفع لم يحقق النتيجة المرضية، كانت تلك الخطة عملية دخيلة
على خطة الحرب الأصلية الأمر الذي جعل الميزان العسكري لمصر يوم 14 أكتوبر لغير
صالحها، فهناك قوات مصرية مهاجمة تتكون من أربعة ألوية مدرعة ولواء مشاة
ميكيانيكي، تملك 400 دبابة في حين أن قوات العدو تتكون من ثمانية ألوية مدرعة
وتملك 900 دبابة وقد نجح العدو في استدراج القوات المصرية لمناطق قتل اختارها
بعناية ونجح في تدمير 200 دبابة، فانسحبت القوات راجعة، وهكذا فشل هجوم 14 أكتوبر
في تحقيق هدفه العسكري وهو احتلال المضايق، ولكنه نجح في تحقيق هدفه السياسي وهو
الحفاظ على دمشق وانقاذها من السقوط في قبضة العدو الإسرائيلي، ولكن الأمر لم
يتوقف على هذا الفشل العسكري بل إنه تطور لحدوث ثغرة الدفرسوار، التي استطاعت أن
تنفذ منها إسرائيل وتنفيذ عملية الغزالة الإسرائيلية، ونقل ساحة الحرب من شرق
القناة إلى غربها، ورغم المقاومة الباسلة من قبل القوات المصرية وخصوصًا في منطقة
المزرعة الصينية، الصحيح أنها مزرعة يابانية وليست صينية، إلا أن النتيجة النهائية
أن قوات شارون وأدان استطاعت أن العبور بل قام بإسقاط كوبري بالقناة عبرت عليه
فرقتي شارون وأدان، ورغم صدور وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر إلا أن قوات شارون واصلت عملياتها
خارج إطار القانون ووصلت إلى السويس حتى استطاعت أن تحاصر الجيش الثالث في السويس،
لتتخذه وسيلة ضغط وتحقيق مكاسب عسكرية يمكن أن تستخدمها كورقة ضغط عند بدء
المفاوضات.
في النهاية هذه كانت جولة من جولات الصراع العربي الإسرائيلي وهو الجولة
الرابعة فقد سبقها جولات 1948، 1956، 1967، استطاعت مصر أن تحقق في هذه الجولة 1973ما
عجزت عنه في الجولات السابقة وهي هزيمة الجيش الإسرائيلي وتحقيق انتصار حقيقي هز
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بقوة، ولا زالت تردد أنها تسعى ألا يتكرر، فمن يضمن
لها ذلك؟
![]() |
عملية غزالة الإسرائيلية والعبور غربًا ومحاصرة الجيش الثالث بالسويس |
تعليقات
إرسال تعليق