حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"

حجاج الخضري ....
قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"
طلب المحتسب ـ وهو ذلك الشخص الذي كان يتولى منصب الحسبة وكان من المفترض أن يكون على دراية بمهن المدينة وضبط الموازين، ويراقب سير المعاملات التجارية، مصطفى الكاشف محتسب محمد علي حجاج الخضري في ليلة الخميس 17 من رمضان عام 1232 الموافق ليوم 31 من شهر يوليو  عام 1817 وأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقًا لمثلها من ليلة القابلة، ثم أذن برفعه فأخذه أهله ودفنوه.
ميدان الرميلة 
هكذا علق الجبرتي على حادثة مقتل حجاج الخضري الذي كان واحدًا من القيادات الحرفية المصرية في تلك الفترة والذين عرفهم التاريخ باسم "أولاد البلد"، لم يكن حجاج الخضري بن قرية المنوات شهيرًا بما فيه الكفاية لكي يفرد الجبرتي حديثًا عنه في وفيات مشاهير ذاك العام الذي قُتل فيه، لذا فإننا لا نعرف إلا اسمه معرفًا بمهنته التي كان يمارسها وكان شيخًا لطائفتها، وربما ما عرفنا أنه من قرية المنوات التابعة لمركز أبو النمرس بمحافظة الجيزة إلا لأنه فر إليها جزعًا بعد إنتهاء أزمة الولاية عام 1805والتي كان له دورًا بارزًا للغاية في تولية محمد علي باشا السلطة وذلك أثناء صراعه مع أحمد خورشيد باشا، الذي أصر ألا ينزل عن منصبه على غير العادة، وأكد على أنه لا يُعزل بأمر الفلاحين ولا ينزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة.
كان حجاج الخضري مشهورًا بالإقدام والشجاعة طويل القامة عظيم الهمة وكان شيخًا على طوائف الخضرية، وهذه الصفات تجعله ليس مجرد شيخًا لطائفة الخضرية ولكن تجعله فتوة من الفتوات، فقد كان صاحب صولة وكلمة بناحية الرميلة، التي تسمت على اسم ميدان الرميلة أو ما عُرف بميدان القلعة المواجه لقلعة صلاح الدين الأيوبي تتبع الآن قسم الخليفة وتُعرف باسم المنشية، وقد عُرف الخضري بمكارم الأخلام، كما ذكر الجبرتي، وهذه الصفات الخَلقية والخُلقية ، التي تمتع بها إلى جانب حجاج الخضري العديد من أولاد البلد في ذلك الوقت مثل إسماعيل جودة وابن شمعة شيخ طائفة الجزارين وعلى رأسهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم الأسيوطي، كانت كفيلة بأن ترجح كفة صراع أولاد البلد من المصريين ضد خورشيد باشا، خاصة وأن فترة الصراع هذه لم تكن قصيرة ولم تكن أحداثها هينة سهلة، فهي ترقى إلى حرب أهلية استغرقت ثلاثة أشهر، بدأت يوم 13 مايو عام 1805 وانتهت في 11 أغسطس ، بنزول أحمد خورشيد إلى بولاق لركوب المراكب إلى الإسكندرية.
قرية المنوات جنوب الجيزة وشمال الحوامدية
ولعل من أسباب اصطبار المصريين ممثلين في سكان القاهرة وقتذاك على تلك الحرب التي كانت يتم فيها استخدام القنابر والمدافع، وكان الرمي فيها يتواصل أحيانًا لعدة ساعات متواصلة كما حدث في أيام ذروة الصراع في شهر يونيو فقد كان الرمي يتواصل لعدة ساعات حيث يتواصل الرمي من أول النهار  حتى بعد الظهيرة وأحيانًا بعد العشاء حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، ولم ينزعج أهل البلد من ذلك لاعتيادهم على مثل تلك الأحداث منذ الحملة الفرنسية فرب ضارة كانت نافعة.
بداية لا شك أن ظهور حجاج الخضري في الأحداث كان منذ نشأتها أي منذ أن تجمع المصريون في دار القاضي يوم 13 مايو 1805، وذلك لأن الحجاج الخضري كان شيخ طائفة الخضرية في القاهرة، وكان شيخ الطائفة هو ممثل الطائفة أمام الحكومة وهو همزة الوصل بينها وبين باقي أفراد الطائفة حيث يقوم بجمع الضرائب من افراد طائفته المكلفون بأدائها كذلك يهتم بمستوى الخدمة التي يقدمها أفراد الطائفة لعملائهم ولكل شخص في الطائفة مكانته في ظل وقيادة شيخ الطائف، لذا وإن كان هناك اختلاف حول عدد المصريين الذين حضروا في بيت القاضي في ذلك اليوم ألف أم أربعون ألف؟! فلا شك أن حجاج الخضري كان من ضمن المجموعة الصغيرة التي كانت في بيت القاضي فهو رأس طائفة ويمثل مجموعة كبيرة العدد.
وطائفة الخضرية برئاسة حجاج الخضري كغيرها من طوائف الحرف التي كانت موجودة بالقاهرة وقتذاك عنصرًا أساسيًا في حياة المدينة، وقد بلغ عدد طوائف الحرف بالقاهرة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر 206 طائفة، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك حرف قد انقرضت مع الزمن لأسباب عدة منها تأثر الصناعات الحرفية بالمنافسة الأجنبية، وكذلك التطور الذي شهده المجتمع القاهري، وما تعرضت له تلك الطوائف من ضغوط من الحكام وأثناء الحملة الفرنسية، وكان لتلك الطوائف دور مهم في الحركات الجماهيرية التي قامت في القرن الثامن عشر، وبدأت تلك الحركات الجماهيرية تتخذ شكل احتجاج مبدئي ضد العسف والظلم ثم أخذت تتعمق وتتخذ لنفسها شكلًا سياسيًا حقيقيًا مع قدوم الحملة الفرنسية، الأمر الذي صهرها وأكسبها خبرة استطاعت أن تعتمد عليها في صراعها ضد الوالي خورشيد باشا وتوليتها لمحمد علي منصب الولاية وظهور ما أطلق عليه المؤرخين القوة الرابعة من المصريين إلى جانب القوى الثلاث من المماليك والعثمانيين والإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة للاستيلاء على السلطة في البلاد بعد خروج الحملة الفرنسية.
تمت محاصرة القلعة ومن فيها طبقًا للاتفاق الذي تم بين عمر مكرم ومحمد علي في 19 مايو 1805، وقد أطلق الجبرتي في يومياته على المحاصرين في القلعة تسمية "القلعاوية"، وذلك للتمييز بينهم وبين أولاد البلد الذي يجتهدون في إنزالهم من القلعة، والتي كانت بمثابة مركز الحكم وقصبته في ذلك الوقت، فهي مقر الوالي ورمز السلطة، وعند تلك اللحظة الفارقة ظهر اسم حجاج الخضري لأول مرة مع تلك المحاولة التي كادت أن تقضي على عملية الحصار الذي فرضها الثائرون على القلعة وذلك ليلة الخميس الموافق 6 يونيو ، في تلك الليلة حضر مجموعة من العسكر الساكنين بناحية المظفر وقت الغروب وضربوا على الأجناد والرعية الذين بالمتاريس وأجلوهم عنها وجلسوا مكانهم، لكن عندما تسامع أهل الرميلة بذلك الأمر اجتمعوا وحضروا إليهم وكبيرهم حجاج الخضري وإسماعيل جودة وهجموا عليهم وقتلوا منهم أنفارًا وفر بعضهم إلى الوكالة فأغلقوها عليهم حتى حضر ذو الفقار كتخدا ودافع عنهم وأخرجهم.
وخلال تلك الفترة كانت الفرق والطوائف العسكرية عديدة ولم يكن هناك وضوح تام حول إنحيازاتهم الأمر الذي كان يسبب مشاكل كثيرة، وهو ما ظهر في ذلك الموقف فمجئ هؤلاء الأجناد واستيلائهم على المتاريس، وهم غير معروفين لأي الطرفين يميل، كان من الممكن أن يكون بمثابة ثغرة ينفذ منها القلعاوية ويتخلصوا من الحصار، كذلك كانت المكائد عديدة فقد رتب علي باشا السلحدار مكيدة مع القلعاوية حيث أخبرهم بأنه سيهجم على المتاريس من جهة الصليبة وأنه بمجرد هجومه يقوم من بالقلعة برمي المدافع والقنابر على البلد والمتاريس فتنزعج الناس ويتم لهم الخلاص، وفي نفس الوقت كان هناك سعي من كبيرا السلحدار بأن يفتحوا الطريق عبر المتاريس من خلال الحصول على إذن من السيد النقيب بأن يخلي لهم طريق المتاريس ولا يتم التعرض لهم، لكن وصل السيد عمر مكرم خبرًا بتلك المكيدة التي كان من المقرر لها ليلة السبت 15 يونيو فما كان إلا أن أيقظ القائمين على المتاريس وحذرهم فاستعدوا وانتظروا وراقبوا.
ومرة أخرى يظهر دور حجاج الخضري في تلك الليلة حيث رأى من ناحية القرافة جمال تحمل ذخيرة واصلة من علي باشا السلحدار إلى القلعة ومعها أنفار من الخدم والعسكر وكانت تلك المعونة العسكرية ليست بالضئيلة فقد كانت حمولة ستون جملًا، فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة فضربوهم وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجمال وقتلوا شخصين من العسكر وقبضوا على ثلاثة غيرهم وحضروا بهم وبرؤس المقتولين إلى السيد عمر مكرم فأرسلهم إلى محمد علي الذي أمر بقتل الآخرين.
وفي يوم الجمعة الموافق 29 يونيو  اعتقد القلعاوية أن العساكر الذين في قلوبهم مرض تحابوا مع أهل البلد فرموا من القلعة بالمدافع والنبن ونزل طائفة من عسكر القلعة جهة عرب اليسار وتترسوا هناك فما كان من حجاج الخضري وأهل الرميلة ومن معهم من عسكر محمد علي أن حاربوا المتترسين وقتلوا كبيرهم ومعه آخر وأخذوا سلاحهما ورؤسهما وأحضروهما إلى السيد عمر ، وبذلك استطاعوا أن يحافظوا على عملية الحصار المتواصل ضد القلعة ومن فيها.
وكان وصول القبجي صالح أغا ومعه فرمانات من السلطان العثماني تعضد موقف المصريين بجعل ولاية مصر لمحمد علي والي جدة سابقًا، من الحوادث الذي قابلها المصريين بفرحة كبيرة فخرج أهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات مثل أهل باب الشعرية والحسينية والعطوف وخط الخليفة والقرافتين والرميلة والحطابة والحبالة وكان كبيرهم في هذا المشهد حجاج الخضري وكان بيده سيف مسلول، كذلك خرج شيخ الجزارين ابن شمعة وغيرهم من رؤساء الطوائف حتى نزلوا ببيت محمد علي والي مصر الجديد بالأزبكية.
وكما نوهنا في السابق فإنه في هذه الأحداث لم يكن هناك وضوح تام من مواقف الفرق العسكرية والأجناد، فكثيرًا ما كان العسكر المشاركين لأولاد البلد في حصار القلعاوية يقعون فيهم ويتناوشون فيما بينهم ويضربون بعضهم بعضًا، ويقع قتلى من الجانبين، وهذا ما حدث مع حجاج الخضري في يوم الخميس الموافق 12 يوليو  حيث وقع قتال بينه وبين العسكر جهة طولون ووقع قتلى من الجانبين، في ذلك الوقت كان حجاج الخضري عنصر هام من عناصر المقاومة والحصار المفروض على القلعاوية وكان واضح الهدف، لذا فإن القائمين على الأمر خاصة محمد علي ورجاله كانوا حريصون على إبقاءه في جانبهم، ولم يتم التعرض له رغم قتله لجنودهم، فقد كان الخضري وأهالي الرميلة الذين يسيطر عليهم أكثر أهمية من هؤلاء النفر.
ويبدو أن حجاج الخضري قد شعر قوته ودوره في ذلك الصراع فسعى إلى أن يؤسس لهذا الدور من خلال تأمين منطقة الرميلة فقام ببناء حائط وبوابة عُرفت باسم بواب حجاج، وفيما بعد عُرفت باسم بوابة الخلاء، وذلك عند "عرصات" ساحات بيع الغلال بالرميلة، وقام ببناءها في يوم 12 أغسطس 1805، أي بعد يوم واحد من نزول أحمد خورشيد المخلوع إلى بولاق في مراكبه متجهًا نحو الإسكندرية، وقد عُرفت تلك البوابة لفترة باسم بوابة الخضري،
وعلى الرغم من دور حجاج الخضري وسكان الرميلات في تحقيق إنجاز تاريخي من خلال ذلك الحصار الذي ضربوه على القلعة ومن فيها حتى جاء الأمر السلطاني بنزول خورشيد باشا وخروجه معززًا من البلاد، بل وقيام شيخ طائفة الخضرية ببناء حائط وبوابة بالرميلة، إلا أن هناك ما كان يهدد حياته وتمثل ذلك في خوفه من ثأر طوائف العسكر الذين شارك في قتل افراد منهم أثناء تلك الأزمة، والغريب في الأمر أنه لم يخشى من تبقى من عسكر وجنود خورشيد باشا ولكنه خشي من الجنود والفرق العسكر التابعة لمحمد علي وأتابعه الذين وقع بينهم وبينه كثير من الحوادث ووقع فيها قتلى من الطرفين كما مر علينا، لذا فإنه انطلق إلى قريته المنوات الواقعة إلى جنوب مدينة الجيزة في مركز أبو النمرس.
وقد حاول حجاج الخضري أن يلتمس الأمن الشخصي لنفسه فانضم إلى معسكر محمد بك الألفي ولكن الألفي طرده، والسبب في هذا الطرد غير معروف، لكن عاد الخضري مرة أخرى لقريته، ومن راسل السيد عمر مكرم طالبًا الأمان فكتب له ذلك الأمان من الباشا وعاد حجاج الخضري مرة أخرى إلى القاهرة في 20 فبراير عام 1806، وقابل محمد علي الذي خلع عليه وردوا له مكانته في الرميلة، بأن نادوا له فيها بأنه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه، ويبدو أن خطر ذلك الثأر كان واضحًا حتى أنه تم تخصيص عسكري يصحبه في تجواله في المدينة، ولكنه لم يلبس أن اختفى مرة أخرى في يوم الاربعاء الموافق 5 مارس 1806، وذلك لما داخله من الخوف والوهم من العسكر، وعلى ما يبدو أن حياته لم تكن مستقرة رغم ذلك الأمان الذي حصل عليه من الباشا، فتلك الفرق العسكرية ليس لها عهد ولا أمان. واهتمام الجبرتي بحجاج الخضري دليل على مكانته ودوره في تلك الفترة المضطربة، لكن ليته نعاه في وفيات عام 1817 لكنا عرفنا عنه الكثير والكثير.
وقد ظل الأمر على ما هو عليه وعاش حجاج الخضري يتقلب بين خوف ورجاء دبروا له المكيدة وأخذوه بدون جريرة، وذلك يوم الخميس 31 يوليو 1817 بأن تم إلقاء القبض عليه من قبل مصطفى الكاشف محتسب محمد علي باشا، الذي قام بشنقه في الجمالية وترك جثمانه معلقًا لمدة يوم حتى أذن لأهله بإنزاله ودفنه، ويعلق الجبرتي على قتله بأنه لم يؤخذ في هذه بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلومًا لحقد سابق وزجر لغيره، فقد كان محمد علي مثل أي حاكم متغلب لا يريد أن يرى أي شخص كان له دورًا في وصوله للحكم حتى لو كان ذلك الشخص شيخ طائفة الخضرية.
المراجع والمصادر:
1-      عبد الرحمن الجبرتي، تاريخ عجائب الأخبار في التراجم والآثار، جـ3، جـ4.  
2-      علي مبارك، الخطط التوفيقية، جـ2
3-      نبيل السيد الطوخي، طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.






تعليقات

  1. شكراً على هذا العرض الأمين لقصة الثورة الشعبية المنسية في التاريخ المصري وربما كان مقتل الخضري تم بأمر محمد علي شخصيا أو بتحريض منه فقد أطلق يد المحتسب الذي عينه في رمضان ثم غل يد المحتسب في أول شوال

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling