بنك مصر: طلعت حرب ليس صاحب الفكرة لكنه منجزها
بنك مصر
طلعت حرب ليس صاحب الفكرة لكنه منجزها
تتكرر المحاولات وتتعد في سبيل تحقيق هدف ما، وقد تفشل المحاولات المبكرة
أو يكون نجاحها محدود ولكن ما أن يتحقق النجاح المنشود يحصل من تمكن من الأمر على
كل شيء ويصبح المتصدر ويدور الحديث حوله وحول إنجازه، ويكأنه ليس هناك من سبقه في
السعي لهذا الهدف، هذا بالطبع ليس تقليلًا من شأن من تمكن من تحقيق الأمل والوصول
للهدف، لكننا في الوقت نفسه ننسى أصحاب المحاولات الذين بالتأكيد وضعوا اللبنة
الأولى لمحقق النجاح، أو على الأقل أبانوا الطريق وأرشدوا من خلال أخطاءهم للناجح
عن سُبل تحقيق هذا الإنجاز.
إنشاء بنك مصري وطني أحد هذه الموضوعات، فإن كان نجاح تأسيس البنك تم على
يد الاقتصادي الشهير محمد طلعت حسن محمد حرب فإن شرف المحاولة على يد رجالات الوطن
قد بدأت منذ وقت مبكر، بل إن المحاولة كانت كبيرة وارتبطت بهدف سياسي رئيس وهو
حالة الاقتصادي المصري والأزمة التي عصفت به ممثلة في الديون التي بدأت منذ عهد
سعيد وبلغت لحالة مزرية في عهد إسماعيل أدت إلى تدخل أجنبي في شئون مصر وانتهى
المطاف بوقوع مصر في قبضة الاحتلال البريطاني عام 1882.
يُرجع البعض فكرة إنشاء أول بنك وطني في مصر إلى محمد علي وذلك برأس مال
حجمه 700 ألف ريال، لكن النهاية المأساوية لمشروع محمد علي النهضوي أتت على الفكرة
في مهدها، خاصة وأن معاهدة لندن 1840 حصرت محمد علي داخل الحدود ولاية مصر، كذلك كان
القضاء على نظام الاحتكار ذلك النظام الاحتكار الذي كان الركيزة الأساسية في تحقيق
محمد علي لنهضته وضمنت له الدخول في سوق التجارة الدولية منافسًا لغيره من الدول،
من خلال تنفيذ اتفاقية بلطة ليمان التي فرضتها انجلترا على الدولة العثمانية عام
1838 وسار تنفيذها واجبًا على جميع أنحاء الدولة العثمانية ومن ضمنها مصر طبقًا
لبنود معاهدة لندن سابقة الذكر. والبعض مثل صلاح العبيدي يشير في كتابه الدور
الاقتصادي للبرجوازيين الوطنيين في المشرق العربي إلى أن محمد على شرع في إنشاء
بنك في عام 1830 مع بعض الأجانب المقيمين في مصر، وكان الهدف منه تسعير العملة
الأجنبية والأوزان وسائر أصناف الزراعة والتجارة، وتم اختيار الاسكندرية مقرًا له،
لكن المشروع لم يستمر لعدم دفع محمد علي حصته في البنك والتوسع في عملية الإقراض
مما جعل البنك عاجز عن الوفاء عن التزاماته.
ومع التدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية في عهد الخديو إسماعيل منذ عام
1875 بحجة الديون الأجنبية وضمان حق الدائنين، ليصبح عام 1876 هو العام الذي يتم
فيه التأريخ بخروج إدارة المالية المصرية عن سيطرة مصر لتصبح في يد المراقبين
الماليين الأجانب من خلال صندوق الدين الذي يُعد أول هيئة رسمية أوروبية أنشئت
لفرض التدخل الأجنبي في شئون مصر المالية في بادئ الأمر ثم السياسية بعد ذلك حيث
إنتهى الأمر بإنشاء الوزارة المختلطة عام 1878التي دخل فيها وزيرين أوربيين إنجليزي
للمالية وفرنسي للأشغال، ومن طرائف تشكيل تلك الوزارة المختلطة أنه كان من المقرر
في بادئ الأمر تعيين وزير إنجليزي في منصب وزير المالية مع إلغاء الرقابة الثنائية
الفرنسية والإنجليزية، فلما علمت فرنسا بالأمر استشاط غضبًا وأصرت على التواجد في
الوزارة فتم تسوية الأمر مع إنجلترا بأن تحصل على منصب وزير الأشغال في الوزارة،
فلما علمت إيطاليا والنمسا بالأمر حاولا أن يكون لكل منهما وزير، فطالبت إيطاليا بوزارة
الحقانية والنمسا بوزارة المعارف لكن اتفقت انجلترا وفرنسا معهما على أن تمثل
إيطاليا من خلال مراقب مالي عام ونمساوي مساعدًا لناظر المالية.
مع تحرك الأحداث وإلغاء الوزارة المختلطة ونشاط الطبقة البرجوازية المصرية
الممثلة في الأعيان وملاك الأراضي الزراعية من أصحاب الملكيات المتوسطة والكبيرة
على المستوى السياسي من خلال السعي لتشكيل حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس النواب،
وتقديم مشروع لسداد الديون على مدى 65 عام وبفائدة5% وتخصيص أربعة ملايين من
الجنيهات من دخل الحكومة للشئون الإدارية، وقد تم الإيعاز في نفس الوقت من قبل
الخديو إسماعيل إلى المفكر اللبناني شبلي شميل لأن ينشر في جريدة "التجارة"
لصاحبها أديب إسحاق في مارس 1897مشروع إنشاء بنك مصري برأس مال أربعة عشر مليونًا
جنيهًا ليعادل بنك إنجلترا ويتفوق على بنك فرنسا بنحو ستة ملايين والغرض منه توطين
الدين العام، وتنتظم تجارة البلاد وزراعتها فيقبل الأهالي على المشروعات والشركات
النافعة، واستهلاك مقدار وافر من ديون الحكومة وبذلك تتخلص البلاد من الاستعباد
الأجنبي، وقد تلقف أعيان البلاد وعلى رأسهم إسماعيل راغب باشا، الذي كان له دورًا
في حركة اللائحة الوطنية التي دعت لإسقاط نظارة نوبار ذات الوزيرين الأوربيين، تلك
الدعوة وقرروا إقامة ذلك البنك.
في نفس الوقت كان هناك فريق آخر من الأعيان على رأسه سلطان باشا، رئيس مجلس
النواب فيما بعد، وعمر لطفي باشا أبو التعاون في مصر وأحد رواد التعاون في العالم،
قام بالدعوة لتأسيس بنك وطني ودعوة أمراء ووجهاء القطر المصري بالاشتراك والانضمام
إليهم، وكان رأس المال المقرر لهذا البنك أربعة ملايين من الجنيهات. لكن جاءت
العواصف السياسية التي قلبت الوضع في مصر فأهالت التراب على تلك المشاريع، فكانت
إقالة الخديو إسماعيل عام 1879، صاحب الدعوة الأصلي التي قدمها شميل، وتعيين نجله
الخديو توفيق، ثم هبوب رياح الحركة الوطنية ممثلة في ثورة الضباط المصريين بقيادة
عرابي في أوائل عام 1881، وقد أشار بلنت صديق عرابي في كتابه التاريخ السري
لاحتلال انجلترا مصر، أن عرابي قد فكر في إنشاء "بنك تسليف" للفلاحين،
لكن عدم اكتمال المشروع الوطني ووقوع البلاد في قبضة بريطانيا قضى على جميع تلك
الأفكار.
لم تراوح فكرة إنشاء بنك وطني مصري مكانها في ظل الاحتلال البريطاني للبلاد
لمدة جاوزت ربع القرن، حتى كانت أزمة عام 1907 المالية، والتي بدأت بارتفاع
أسعار العقارات منذ عام 1905 واتجه أصحاب
رؤوس الأموال للاستثمار فيها حتى كانت الصدمة فقد هوت الأسعار وفقد الكثير
أموالهم، وقد استطاع البنك العقاري المصري (وقد أنشئ بإشراف من البنوك الفرنسية
الكبرى، مثل الكريدي ليونيه والشركة العامة) من أن ينزع ملكية مليون ومائة ألف
فدان من أصحابها الذين عجزوا عن الوفاء بسداد ديونهم، مع تلك الأزمة وذلك الاستيلاء
الرهيب لملكية الأرض من أيدي المصريين إلى أيدي الأجانب، عادت مرة أخرى فكرة التفكير
في تأسيس بنك وطني مصري، ورغم محاولة بعض كبار الملاك النزول إلى ميدان الأعمال
المصرفية، مثل بشرى وسينوت حنا، وعائلة ويصا بأسيوط حيث كانوا يقومون بدور البنوك
من خلال عمليات قبول الودائع والقيام بتحويل الأموال لكنها لم تستطع الصمود في وجه
منافسة البنوك والفروع الأجنبية التي بدأت تجد في مصر مجالًا رحبًا للربح.
في أبريل عام1911 عقد المؤتمر المصري الأول، ورغم أن المؤتمر كان قد عُقد
ردًا على مؤتمر سبقة في مارس عُرف باسم المؤتمر القبضي في أسيوط إلا أن العقل
الجمعي المصري قد وجد أن هذا التجمع الذي من النادر أن يتكرر يمكن أن يكون فرصة
للمناداة بفكرة البنك الوطني المصري ويذكر الدكتور عبد العظيم رمضان أنه من بين
واحد وثلاثين إسمًا من الأعيان والتجار وأرباب المهن الحرة والموظفين الذين
اقترحوا في هذا المؤتمر تأسيس البنك الوطني لم يكن طلعت حرب واحدًا من بينهم، بل
وجد أن الدكتور يوسف النحاس هو صاحب الدعوة الحقيقية لإنشاء البنك الوطني المصري،
وقد قدر أن رأس المال المقرر لهذا البنك يمكن أن يبدأ بمليونين من الجنيهات، وكان
النحاس أحد رجالات الاقتصاد المصري وكان صاحب دعوات لتحسين حال الفلاح المصري
اقتصاديًا واجتماعيًا، بل إنه حصل على درجة الدكتوراه من فرنسا من خلال أطروحته
التي حملت عنوان "الفلاح".
واستطاع يوسف النحاس في هذا الاجتماع المصري من التأكيد على أهمية الخلاص
من الاحتلال المالي الذي هو أسوأ من الاحتلال العسكري فقد أدى الأول للثاني ومكن
له، كذلك كان حريصًا على التأكيد على امتلاك مصر الكوادر القادرة أن تقوم وتدير
هذا البنك، كذلك كان حريصًا على التأكيد على أهمية هذا البنك الوطني في تخليص
البلاد من ذلك الدين المتراكم عليها بل دعى إلى شراء هذا الدين أسوة بما قامت به
إيطاليا حيث أن أول ما قامت به بعد تحقيق وحدتها عام 1871 وإعلان روما عاصمة لها
أن قامت بشراء دينها لتتخلص من كابوس التدخل الأجنبي، مشيرًا إلى خطوة الديون
العقارية التي رجح أنها تصل إلى خمسين مليون وهو رقم يقصم الظهور.
بعد اختتام أعمال المؤتمر قررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر في مايو 1911 تنفيذ
اقتراح الدكتور يوسف نحاس وذلك بتشكيل لجنة لوضع نظام للبنك وعهد لكل من طلعت حرب،
ويوسف النحاس، وعبد الرازق الفار، وعمر لطفي وأحمد عبداللطيف، وعبد العزيز فهمي،
وعزيز منسي، ببحث مشروع تأسيس بنك وطني وتقديم تقرير عنه لمجلس إدارة المؤتمر،
كذلك قرر مجلس إدارة المؤتمر إيفاد طلعت حرب لأوربا لدراسة مشروع المصرف الوطني،
وربما كان اختيار طلعت حرب وظهوره في تلك الفترة راجع إلى كونه واحد من أهم مدراء
الشركات المالية في مصر وقتذاك وهي شركة كوم أمبو، كما أحيل إليه في الوقت نفسه
إدارة الشركة العقارية المصرية التابعة لبنك "إخوان سوارس ورولو وقطاوي ومنشه
وغيرهم"، كذلك كان يدير أعمال دائرة عمر سلطان بكفاءة.
ولكن هذا لا
يعني أن طلعت حرب كان بعيدًا عن الفكرة وأنه ظهر لبراعته الإدارية في مجال المال
والأعمال، ففي عام 1906 طالب طلعت حرب بإنشاء نظام مالي مصري لخدة أبناء وطنه، وفي
عام 1908 قام بتشكيل شركة التعاون المالي برأس مال مصري بهدف تقديم القروض المالية
للشركات الصغيرة المتعسرة ماليًا، وفي عام 1911قدم طلعت حرب كتابه "علاج مصر
الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين"، يرجح دكتور عبد العظيم رمضان أن تاريخ صدور
هذا الكتاب هو 1913، وبالتالي فإن ظهور واكتمال مشروع طلعت حرب الفكري الاقتصادي
عاصر فكرة المؤتمر المصري فكان اختياره للسفر محل توفيق كبير، لكن هذه الجهود
تعطلت بسبب الحرب العالمية الأولى، لتعود
مرة أخرى بقوة وزخم أكبر مع ثورة الشعب عام 1919.
أقنع طلعت
حرب مائة وستة وعشرين من المصريين بالاكتتاب لإنشاء البنك، وبلغ ما اكتتبوا به
ثمانين ألف جنيه، تمثل عشرين ألف سهم، أي أنهم جعلوا ثمن السهم أربعة جنيهات فقط،
وكان أكبر مساهم هو عبد العظيم المصري بك من أعيان مغاغة الذي اشترى ألف سهم، أي
أنه ساهم بنحو أربعة آلاف جنيه، في حين ساهم طلعت حرب بألفين من الجنيهات· وفي
الثلاثاء 13 أبريل سنة 1920نشرت الوقائع المصرية في الجريدة الرسمية للدولة مرسوم
تأسيس شركة مساهمة مصرية تسمى "بنك مصر"· وكان قد تم قبل ذلك عقد تأسيس
الشركة بين ثمانية من المائة والستة والعشرين مساهماً جميعهم مصريون، وحرر بصفة
عرفية في 8 مارس سنه 1920 - ثم سجل في 3 أبريل - أي بعد أقل من شهر وهؤلاء
الثمانية هم: أحمد مدحت يكن باشا، يوسف أصلان قطاوي باشا، محمد طلعت بك،
عبد العظيم المصري بك، الدكتور فؤاد سلطان، عبد الحميد السيوفى أفندي، اسكندر
مسيحه أفندي، عباس بسيونى الخطيب أفندي، وتم تشكيل مجلس إدارة ضم إلى جانب هؤلاء
الثمانية كل من علي ماهر يوسف شيكوريل، وتولى مدحت يكن رئاسة مجلس الإدارة منذ
إنشاءه حتى عام 1940، في حين كان طلعت حرب نائب رئيس المجلس حتى عام 1939. والغريب
أن يوسف النحاس لم يظهر اسمه ضمن هؤلاء المؤسسيين!!
ومما يذكر
أن المستشار البريطاني لوزارة المالية المصرية طلب طلعت حرب لكي ينصحه بضرورة العدول
عن القيام بمثل هذا المشروع، متهكمًا عليه بأنه كان يعتقد أن أذكى من ذلك وأن
الجنون لم يصبه كباقي المصريين في الشارع، ونصحه بأن يراجع نفسه مرة أخرى خاصة وأن
المصريين سوابقهم في السقوط في الديون ليست بعيدة، كما نصحه بأن يستعين ببعض
الخبرات الأجنبية لعلها تصلح ما يفسدون، لكن طلعت حرب أخبره بأنه قرر أن يكون البنك
مصريًا مائة في المائة.
وبذلك ولد
البنك الوطني المصري الذي كان فكرة منذ عهد محمد علي، ولكن ميلاده كان ضعيفًا
مقارنة بالأرقام التي كانت متداولة في مشروع إسماعيل راغب أو سلطان باشا، أو حتى يوسف
النحاس، فرقم ثمانون ألف جنيهًا رقم هزيل للغاية، ولكنه رغم ذلك استطاع أن يقيم
اقتصاد حقيقي للدولة من خلال العديد من الشركات التي حملت اسم مصر، فهناك مصر
للطيران، شركة مصر لصناعة الأوراق، شركة مصر لحلج القطن، شركة مصر لصناعة السينما،
شركة مصر للغزل والنسيج، شركة مصر للسياحة، شركة مصر للشحن، شركة مصر لمصايد
الأسماك، شركة مصر لغزل الحرير، شركة مصر للكتان، شركة مصر لصناعة وتكرير البترول،
شركة مصر للمناجم والمحاجر، وغيرها من الشركات، ولم تقتصر مشاريع بنك مصر على مصر
لكنها تعدتها إلى دول الوطن العربي في السودان وسوريا والسعودية.
تعليقات
إرسال تعليق