جامع المؤذي الشهير بجامع تغري بردي


جامع المؤذي
الشهير بجامع تغري بردي
تمتلئ القاهرة بالعديد من المساجد والجوامع التاريخية، وهذا أمر لا جدال فيه حيث أنها من المدن ذات النشأة المبكرة في تاريخ الإسلام، فكانت البداية ببناء مدينة الفسطاط بُعيد دخول عمرو بن العاص مصر وفتحها وضمها لدولة الخلافة الإسلامية، وذلك سنة 20ه/641م، وكان بناء الجامع العتيق فيها والذي أُشتهر فيما بعد باسم جامع عمرو بن العاص، ثم تم بناء مدينة العسكر إلى الشمال من مدينة الفسطاط وذلك في بداية عهد الدولة العباسية 133ه/750م، ثم كانت المدينة الثالثة وهي مدينة القطائع التي قام ببنائها أحمد بن طولون كي تكون مركزًا لجنوده، فكان بناءها سنة 256هـ /870م، وذلك في المسافة الواقعة بين مدينة العسكر وجبل المقطم، بالقرب من قبل يشكر ، والذي فوقه تم بناء جامع أحمد بن طولون، ثم كان بناء مدينة القاهرة إلى الشمال الشرقي من مدينة الفسطاط على يد جوهر الصقلي قائد جيوش الدولة الفاطمية سنة 358ه/969م، وجامعها الشهير الجامع الأزهر.
(خريطة القاهرة في بداية القرن 16 عند القبطان بيري ريس (يلاحظ أن اتجاه الشمال في أسفل الخريطة
كان بعض تلك المدن ذات طابع عسكري في بادئ الأمر مثل مدينة العسكر والتي كان اسمها مشتقًا من كونها ثكنة عسكرية لجنود الدولة العباسية، أو أنها كانت مقصورة على الأسرة الحاكمة كما كان حال مدينة القاهرة في بداية نشأتها واقتصارها على أسرة حكام الدولة الفاطمية، ولكن مع الوقت اتصلت هذه المدن الأربع وذلك مع السماح للسكان بأن يسكنوها ويبينوا فيها، خاصة مع الأحداث التي مرت على تلك المدن الأربع وما تعرضت له خلالها من دمار نتيجة لعوامل مختلفة منها الطبيعي والبشري فمن العوامل الطبيعية الزلازل التي ساهمت في تهدم الكثير من المبان والمساجد، أو تغير مجرى نهر النيل وتعرضها كذلك لفيضانه وتأثيره على المنازل خاصة التي من الآجر والطوب اللبن، أو العوامل البشرية مثل الحرائق والنزاعات والاضطرابات سياسية، كما حدث مع مدينة القطائع حيث تم تدميرها مع استعادة الدولة العباسية لزمام السلطة مرة أخرى في مصر ولم يبقوا إلا على جامعها، فكان لابد من أن يتم إعادة بناء ما تخرب فيها، وذلك بالسماح للقادرين من الأهالي على أن يسكنوها من خلال البناء فيها.
جامع عمرو بن العاص
مع نمو وتلاحم تلك المدن الأربعة كان بناء المساجد والجوامع والمدارس والزوايا والتكايا والأسبلة والخوانق من العناصر العمرانية الذائعة والمنتشرة، وكان أهل الإحسان يتوسعون في بناء المساجد وما يلحق بها من مدارس، الأمر الذي جعل القاهرة يطلق عليها مدينة الألف مأذنة، وذلك لكثرة ما بها من مآذن، لكن هناك العديد من الجوامع والمساجد قد بنيت بأموال ليست حلالًا، أو قد أوقف عليها الكثير من الأوقاف المغتصبة من أصحابها، أو تم هدم بعض الكنائس أو البيوت والمساجد القديمة للحصول على ما فيها من عُمد ورخام لبنائها، ومما يذكر في بناء أحمد بن طولون لجامعه أن قُدر لبنائه 300 عمود من الرخام، وقيل له ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحملها منها فأنكر ذلك ولم يختره، حتى بلغ الخبر أحد البنائين النصارى فكتب له أنه يبنيه له كما يحب بلا عُمد إلا عمودي القبلة، وقيل أن بناء هذا الجامع كان من كنز وجده أحمد بن طولون فوق الجبل "جبل يشكر" في الموضع المعروف بتنور فرعون، فاستأذن فيه الخليفة المعتمد فيما يصرفه فيه من وجوه البر فبنى منه الجامع والمارستان "مستشفى"، وحفر عينًا، وقدر أن هذا الكنز كان ألف ألف دينار.
جامع أحمد بن طولون
لكن إن كان أحمد بن طولون عفيفًا فلم يرد أن بني جامعه من مال حرام أو أن يأخذ من الكنائس أو الدور القديمة ما بها من عُمد ورخام، فإن غيره لم يعف عن ذلك، وطالت يده الكثير من المال المغتصب كي يبني بها دارًا أو مسجدًا ويلحق به مدرسة، أو يوقف عليها الكثير من الأوقاف لتكون بمثابة مرتبات للقائمين على المسجد والمدرسة، والهدف من ذلك أن ينال ذلك الشخص حظوة وشهرة في الدنيا كي يقال عنه أنه تقي، أو يشتهر بين الناس بمآثره الحسنة وفضله على الفقراء وأهل العلم، ومن هؤلاء تغري بردي أحد كبار الشخصيات في عهد السلطان المملوكي سيف الدين جقمق (1373- 1453).
جامع تغري بردي
ورد في الضوء اللامع للسخاوي أن الأمير تغري بردي الرومي البكلمشي كان دوادارًا كبيرًا نالته السعادة فعمر مدرسة حسنة في طرف سوق الأساكفة بالشارع قريبًا من صليبة جامع بن طولون، وجعل فيها خطبة ومدرسًا وشيخًا وصوفية ووقف عليها أوقافًا كثيرة غالبها مغتصب وقرر في مشيختها العلاء القلقشندي، وكان أول أمره مملوكًا لبكلمش ثم صار من العشرات في دولة الناصر فرج ثم أنعم عليه الأشرف بأمرة الطبلخانات بعد أن عمله من رؤوس النوب، ثم صار رأس نوبة ثاني ثم أحد المقدمين ثم حاجب الحجاب ولم يلبث أن صار دوادارًا كبيرًا فعظم أمره وقصد في المهمات وكان عارفًا بالأحكام ويكتب الخط الذي يقارب المنسوب ويسأل الفقهاء ويذاكر في التواريخ، ويعف عن القاذورات مع فحش لفظه وعدم بشاشته، وكان لأذاه يعرف بالمؤذي وقد مات ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثمانمائة وصلى عليه بمصلى المؤمنين وشهده السلطان والقضاة وانه قارب السبعين.
سبيل أم عباس
عُرف الجامع الذي بناه "تغري بردي" باسم جامع المؤذي لأن صاحبه كما سبق وذكر السخاوي كثير الأذى، لذا اطلق أهل مصر صفته هذه على الجامع الذي قام ببنائه في شارع الصليبة بين سبيل أم عباس وجامع الخضيري، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تعامل الشعب المصري بواقعية وبساطة شديدة مع الأحداث الجارية، فرغم أن تغري بردي كان من رجالات كبار الدولة وقتذاك، إلا أن ذلك لم يمنعهم من أن يحاربوه بطريقتهم وهي السخرية والاستهزاء، لا شك أن الخوف من بطش السلطة الحاكمة وممثليها كان ماثلًا أمام العيان، والمواجهة كانت معلومة ويدرك الشعب نهايتها، لذا كانت السخرية والتندر ملاذًا آمنًا يتخلص منه الشعب مما لا يحمد عقباه.
جامع الملك المؤيد شيخ
وكان الشعر والزجل وسيلة المصريين في أن يتناقلون ويتندرون على مثل هؤلاء، وذلك لما في الشعر من سجع وموسيقى تجذب الأفهام ويسهل حفظها، ومن ذلك ما يأتي
بنى جـــامــــعًا لله مــن غير حـــــــــــــــــــــــــــــله                  فجاء بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها                     فليتك لا تزني ولا تتصدقي
               
جامع السلطان الأشرف الغوري
ولم يكن تغري بردي هذا هو الأول أو الأخير في بناء تلك المساجد من مال حرام، فقد بنى عدد من سلاطين الدولة المملوكية وغيرهم، كثير من المساجد أيضًا من أموال حرام اغتصبوها من أهلها بدون حق، ومن هؤلاء الملك المؤيد الذي بنى جامعه المشهور الآن في القاهرة، حتى أن احدى مئذنتي الجامع مالت أثناء بناءها، فأمر بهدمها وإعادة بنائها، وكذلك السلطان "قانصوه الغوري" الذي بنى جامعه من المظالم والمال الحرام فسماه أهل مصر "المسجد الحرام" سخرية شديدة واستهزاء لاذع، تشير إلى مصدر هذا المال.
                أمر أخير أود الإشارة إليه وهو أن جامع تغري بردي ليس له علاقة بالمؤرخ أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، إلا أن يكون المؤرخ من عائلة باني الجامع، وذلك لأن المؤرخ مات سنة 1470م، في حين أن الأمير تغري بردي الذي قام ببناء هذا الجامع مات سنة 1442م.
  
                                               


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"