أحمد عرابي وعلي مبارك: أيهما أجدى لمصر؟


أحمد عرابي و علي مبارك
أيهما أجدى لمصر؟
كلاهما نموذج لمصر التي كانت تسعى كي ترتقي في سلم المدنية والحضارة، وتزاحم غيرها من الأمم التي سبقتها، ليس لفضل أو ميزة عليها، ولكن لطبيعة الأحداث التاريخية وصيرورتها، كلاهما من أبناء القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي شهد نهضة كبيرة في مصر على يد محمد علي، لكن ما فات محمد علي أن يحققه بشكل فعال هو أن يبني الإنسان المصري كبنائه للعمائر ، أن يصل المصري بماضيه ويفتح له آفاق أرحب في تنسم الحرية ويجعله قادر على أن يحافظ على ما حققه، وأن يواصل عمله في سبيل تحقيق مستقبل أفضل قائم على العلم والعمل، يوازن بين متطلبات مصر الداخلية والخارجية، ليس همه التوسع والاستيلاء لكن هدفه التنمية والاكتفاء.
محمد علي باشا
كان علي باشا مبارك أكبر من أحمد باشا عرابي بنحو عقدين من الزمن، فقد ولد علي بن مبارك بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروجي في قرية برنبال الجديدة التابعة في الوقت الحالي لمركز منية النصر بمحافظة الدقهلية عام 1823م، في حين أن أحمد بن محمد بن عرابي بن محمد بن وافي الحسيني ولد في قرية هرية رزنة التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية عام 1841م، كلاهما كان يحمل بين جنبيه نفسٌ تسعى للعلا وكانت الرغبة في العلم هي دافعهم لذلك، لكن إن وجد أحمد عرابي دافعًا من أهله نحو ذلك، فإن علي مبارك عانى كثيرًا، من أسلوب التعليم السائد وقتذاك وربما كان ذلك سببًا في اهتمامه بعملية التربية وفق الأسس الصحيحة، انتهى الأمر بعلي مبارك أن فر من والديه وبلدته رغبة في التعلم، وذلك سنة 1835 ولم يعد إلى والديه إلا بعد أربعة عشر عامًا، بعد أن درس في المهندسخانة بمصر ثم سافر لفرنسا مع انجال محمد علي لاستكمال تعليمه هناك، ليعود إلى مصر ليترقى في وظائفها، ليمارس مهنة التعليم في مدرسة طرا، ويعمل بما تعلمه في فرنسا ليشارك في بناء العديد من الجسور والقناطر ويشرف على القناطر الخيرية، كما أشرف على ديوان المدارس في عهد عباس حلمي باشا الأول حتى اقيل منه في عهد سعيد باشا، وألحق بالقوات المصرية التي تحارب في شبه جزيرة القرم ضد روسيا  وأوكل إليه الخديو إسماعيل الكثير من المهام منها إعادة تنظيم مدينة القاهرة.
قد تكون الحالة الاقتصادية لأسرة أحمد عرابي أفضل كثيرًا من الحالة الاقتصادية لأسرة علي مبارك، فقد مات والد أحمد عرابي تاركًا مساحة 74 فدانًا، ولكن رغم ذلك لم يكمل أحمد عرابي تعليمه واكتفى بحفظ القرآن وبعض متون التفسير والفقه في الأزهر الشريف، وكانت نقطة التحول في حياته هي رغبة سعيد باشا حاكم مصر بأن يطعم الجيش المصري بالعديد من أبناء الشعب المصري، فأمر بإلحاق أبناء المشايخ والأعيان بالجيش، وسعى في ترقيتهم كي يتساوى المصريون مع الشراكسة في الجيش، فالتحق عرابي بالجيش المصري سنة 1854م، وعين ضابط صف بدرجة أمين بلوك، واستفاد عرابيي مرة أخرى من نظام الترقي بالامتحانات، حتى وصل إلى رتبة ملازم ثاني بعد أربع سنوات فقط في الخدمة، ويبدو أن زواج أحمد عرابي من بنت مرضعة إلهامي باشا قد جعل الحياة تسير في هناء ورغد، الأمر الذي انعكس عليه بأن قربه سعيد باشا، ونال حظوة لديه، ومن ذلك أنه حصل على ترقيتين في عام واحد، يوزباشي أي نقيب ثم صاع أي رائد، وذلك عام 1859، وفي عام 1860 حصل على رتبة بكباشي أي مقدم ثم قائمقام أي عقيد وهو لم يكمل سن العشرين.
علي باشا مبارك
من الملاحظ أن المترجم لهما كانت أمورهما تسير على عكس الآخر، فقد غضب حاكم مصر سعيد باشا وملأ الوشاة صدره ضد علي باشا مبارك حتى رفته من وظيفة الإشراف على أمور ديوان المدارس، وألحقه للسفر مع الفرق العسكرية الذاهبة للقتال في شبه جزيرة القرم، وذلك عام 1854 وربما وصل في ذلك الوقت لرتبة بكباشي "مقدم"، في حين أن أحمد عرابي في ذلك الوقت كان يرفل في نعيم ولي نعمته سعيد باشا، ويترقى لرتبة علي باشا مبارك رغم أنه لم يدخل مدرسة حربية، مكتفيا بالامتحانات، ويصل عرابي ليكون ياورًا لسعيد باشا ويشارك وهو غير المتعلم تعليمًا عسكريًا في ترتيب المناورات الحربية، في حين أن ذلك الذي تعلم في فرنسا بل وعُين في مدارسها العسكرية يرفت من وظيفته العسكرية رغم ما أداه من خدمة عسكرية جليلة في شبه جزيرة القرم، وما قام به من جهود للحفاظ على الفرق العسكرية المصرية، ومنها أنه اقام لهم مستشفى عسكري لرعاية من أصيب منهم.
ومرة أخرى تدور الدوائر فيتولى الخديو إسماعيل حكم مصر، فينال علي باشا مبارك الحظوة لديه خاصة وأنه كان رفقته في بعثة الأنجال لفرنسا، فتبش الدنيا مرة أخرى لعلي مبارك، ويتولى الكثير من المهام والوظائف ويقوم بها على أكمل وجه، حتى يصبح من أوائل من تولى النظارة "الوزارة" في نهاية عهد الخديو إسماعيل، باشتراكه في أول تشكيل وزاري لمصر في حكومة نوبار باشا حيث أوكل إليه نظارة "وزارة" كل من "الأشغال العمومية، و"الأوقاف، و"المعارف العمومية" وذلك عام 1878، في الوقت الذي ساءت فيه أحوال أحمد عرابي ولم يحصل إلا على رتبة واحدة وهي رتبة أميرالاي أي "عميد" وهي رتبة ليست بالهينة، فلم يصل إليها إلا القليل من المصريين في ذلك الوقت، كما أنها تعد رتبة كبيرة لشخص لم ينل تعليمًا عسكريًا محترفًا بشكل حقيقي، كان علي باشا مبارك قد حصل على رتبة ميرميران أي رتبة "فريق" عام 1868، في عهد إسماعيل باشا، وكذلك النيشان المجيدي من الطبقة الثالثة من الدولة العثمانية، لجهوده في إنهاء الخلاف الذي وقع بين شركة قناة السويس والحكومة المصرية وغيرها من المهام التي أوكله إياها الخديو إسماعيل.
أحمد عرابي
كان من الطبعي أن يسبق علي باشا مبارك أحمد باشا عرابي دخول الوزارة، فكما سبق القول أنه كان ضمن أول تشكيل وزاري شهدته مصر في أغسطس عام 1878، وظل علي باشا مبارك حاضرًا في أكثر من تشكيل وزاري بعد ذلك حيث شارك في وزارة  الأمير محمد توفيق في مارس عام 1879، ووزارة مصطفى رياض الأولى فيما بين عامي (1879-1881)، ووزارة محمد شريف باشا الرابعة عام (1882-1884)، ووزارة مصطفى رياض الثانية فيما بين عامي (1888- 1891) وكان ذلك آخر عهد بالوزارة حيث انتقل للحياة في بلده وليدير أملاكه وتوفى عام 1893، أما أحمد باشا عرابي فقد شارك في وزارة واحدة ووحيدة وهي وزارة محمود سامي البارودي عام 1882 بتوليه وزارة الجهادية والبحرية، وذلك في ظل أحداث ما عُرف عنه باسم الثورة العرابية، وإن كنت أميل لتسميتها بثورة 1881، التي انتهت بهزيمة الحركة الوطنية المصرية، ووقوع مصر في قبضة الاحتلال البريطاني، وتم نفي عرابي ورفاقه إلى جزيرة سيلان بالمحيط الهندي، المعروفة الآن باسم سريلانكا، وظل بها منفيًا قرابة العشرين عامًا، حتى سُمح له بالعودة عام 1903، وعاش بالقاهرة إلى أن توفي عام 1911م.


الخديو إسماعيل

القارئ لكتاب علي باشا مبارك "الخطط التوفيقية" يُدهش بأنه لم يأت على ذكر أحمد عرابي إلا بما يسيئ لعرابي ورفاقه، بل إنه لم يذكر قرية "هرية رزنة" ضمن القرى التي تبدأ بحرف الهاء فيما ذكره من قرى وذلك كي لا يترجم لأحمد عرابي باعتباره أحد رموز تلك القرية، ولعل ذلك يرجع إلى أمرين: الأول؛ هو أن علي باشا مبارك لم يكن موافقًا لما قام به عرابي من أحداث انتهت باحتلال البلاد وفقد مصر لاستقلالها على يد بريطانيا، الأمر الثاني؛ أن الكتاب كان يحمل اسم الخديو توفيق فكيف يتضمن أحد اجزاءه حديث عن شخص عرابي الذي كاد أن يسحب العرش من يد الخديو.
ويبقى التساؤل؛ أيهما أجدى لمصر؟ أحمد عرابي أم علي مبارك؟ الحقيقة أن كل منهما تحتاجه البلاد والعباد، فعرابي ما كان يريد إلا خير مصر لمصر والمصريين، والحقيقة أن ثورة 1881 لو كتب لها النجاح لوجدنا نموذج علي باشا مبارك وجهوده أجدى وأعظم أثرًا، لأن الرجل كان سيستمر في عطاءه نظرًا لكفاءته وليس لرضى الحاكم أو سخطه، كان عرابي ورفاقه يريدون حكمًا دستوريًا قائمًا على تمثيل الشعب لنفسه بشكل حقيقي وفعلي في البرلمان، فتصرف أموال الدولة وميزانيتها فيما يعود بالنفع على البلاد والعباد، وليس لما يوافق هوى الحاكم وشطحاته.
الخديو توفيق
كانت مصر في ذلك الوقت بحاجة إلى Evolution by Revolution   تطوير عبر الثورة، وكان ذلك نموذج أحمد عرابي، في حين أن علي باشا مبارك كان يميل إلى Revolution by Evolution  أي الثورة عبر التطوير، وواقع الأحداث يشير إلى أن النموذج الأول كان أجدى من الثاني، وفي كلاهما خير، لأنه على الرغم من أن علي باشا مبارك استمر في خضم الأحداث وشارك في الوزارة لأكثر من مرة بعد أحداث ثورة 1881، إلا أن رغبة المحتل كانت أكبر من رغبته، ووقفت جميع أحلامه أو ما كان يصبو إليه، لأن المحتل البريطاني ما كان يريد لمصر أن ترتقي عبر بناء المدارس والتوسع في إلحاق المصريين بها، بل العكس ما حدث فقد أغلقت المدارس وأصبح التعليم بالمصروفات وحكرًا على القادرين من علية القوم، يخرج موظفين ليس إلا لإدارة واستدامة دولاب العمل، أما الوظائف العليا فقد استأثر بها الاحتلال ورجاله.
رحم الله علي باشا مبارك و أحمد باشا عرابي فكلاهما لم يريدا إلا الخير لمصر والمصريين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"