ثلج الشام لرفاهية السلطان


ثلج الشام لرفاهية السلطان
في أشهر الصيف تستطيع بسهولة أن تفتح الثلاجة بجوارك وتحصل على كوب ماء مثلج، أو قطع من الثلج تضعها في كوب الماء أو العصير الذي تريد أن تشربه، هذه الرفاهية التي تعيشها الآن لم يكن ملوك وسلاطين مصر يعيشونها، وكانوا يفتقدون إلى ما تعتقد أنه من الأمور العادية والبسيطة التي نعيشها الآن، فإذا كان الثلج من المواد التي كان يفتقدها حكام مصر فكيف كان برعيتهم، لقد كان الحصول على قربة من الماء في بعض شهور السنة بمصر، خاصة وقت التحاريق أو ضعف وتراجع فيضان النيل، يعد من الأماني، ناهيك عن أن تكون مياه باردة أو مثلجة.
لكن رغم الصعوبة في الحصول على الثلج فإن ملوك وسلاطين مصر بذلوا من أجل رفاهيتهم الكثير، وفي المجلد الرابع عشر والأخير من كتاب صبح الأعشى لصناعة الإنشا تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي (756ه / 1355–812ه/ 1418م)، تناول الكاتب جانب من جوانب تلك الرفاهية التي كان يعيشها ملوك وسلاطين مصر في ذلك الوقت، وهذه الرفاهية تمثلت في شرب الماء وما شابهه مثلجًا، وذلك من خلال إحضار الثلج من بلاد الشام.
فمع ارتفاع درجات الحرارة في مصر في فصل الصيف كان أهل السلطة والجاه يعانون من استكمال مستلزمات رفاهيتهم بشرب الماء المثلج، ورغم عدم توافر الثلج في مصر إلا أن هذا لم يمنعهم من استيراده واستقدامه من الجهات التي يتوافر فيها، وكانت الشام هي مصدر الثلج الذي يحضره ملوك مصر، وذلك لإظهار أبهة الملك وإكمالًا لحالة الرفاهية التي يعيشونها، والحقيقة أن هذا الأمر لم يكن حكرًا على مصر وملوكها بل إن كثير من الملوك الذين افتقدوا الثلج بدولهم كان يجلب لهم الثلج أيضًا، ففما يذكر أن الإسكندر كان يخزن الثلج في حفر مبطنة بورق الشجر كي يستخدمه في تبريد الأشربة التي توزع على جنوده ابتهاجًا بكل نصر، وكذلك أباطرة الدولة الرومية وأشهرهم في ذلك نيرون.
مكعبات الثلج في أيدينا الآن بسهولة
وذكر ذلك أبو هلال العسكري (920- 1005م) في كتابه الأوائل، أن أول من حُمل إليه الثلج هو "الحجاج بن يوسف الثقفي" (40- 95ه / 660 – 714م) وكان وقتذاك بالعراق، وكان خلفاء الدولة الأموية يحصلون على الثلج من جبال لبنان ومرتفعات بلاد الشام، أما خلفاء الدولة العباسية فكانوا يحصلون على الثلج من مرتفعات تركيا وأفغانستان، وقد يتصور البعض صعوبة في نقل قطع الثلج بتلك الأوقات، لكن الحقيقة أنه كان يتم نقل قطع الثلج هذه من خلال رشها ببعض المواد النباتية التي تحفظها من الذوبان، مع الحرص على تغطيتها بشكل جيد بقماش أسود وعزلها بالقش أو جلود الخراف، وبذلك يمكن نقل تلك القطع لمسافات طويلة دون أن تفقد 10% من حجمها.
ولما كان ملوك مصر في غاية الاعتناء بنقل الثلج لمصر فقد رتبوا لذلك الأمر عن طريق نقله عبر البر وكذلك عبر البحر، ليصل إلى مكان حفظه في القلعة، وكان الاستعانة بالسفن لنقل الثلج عبر البحر هو الأسبق، مقارنة باستخدام الهجن، وانتهى الأمر إلى أن يصبح الثلج المنقول عبر الهجن هو المستخدم لشرب السلطان الخاص، أما الثلج المنقول عبر البحر فكان يستخدم في أغراض أخرى، كأن يضع في مشروبات الأمراء والأقل رتبة، أو يتم الاستعانة به في المشروبات التي تصنع بغرض الاحتفالات وكانت كثيرة.
بدأ نقل الثلج من الشام في عهد الظاهر بيبرس (1223- 1277م) وذلك عن طريق البحر، وكان عدد هذه المراكب ثلاثة، تزايد عددها مع الوقت إلى أن بلغ عددها في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 -1341م) إلى أحد عشر مركبًا، ثم تراجع عددها في وقت المؤلف "القلقشندي" إلى ما بين سبع أو ثمان مراكب، وكانت المراكب يسافر معها من يتعهد الثلج من ثلاجين، وتصل تلك المراكب إلى ميناء دمياط، ثم تستكمل المسيرة في النيل إلى ساحل بولاق، وهناك ينزل الثلج وينقل على البغال السلطانية، ويُحمل إلى الشرابخانة الشريفة، والشرابخانة معناها بيت الشراب، وكانت تشتمل على أنواع الأشربة المرصدة لخِاص السلطان، ويتولى أمرها أمير من أكابر أمراء المئين أي مقدمو الألوف، ولها مهتار يُعرف بمهتار الشراب خاناه.
قمم الجبال حيث كان الثلج يقطع 
وكما زادت عدد المراكب في عهد دولة الناصر "محمد بن قلاوون" فإنه تقرر كذلك نقل الثلج عن طريق جهة ثانية وهو  أن يتم نقل الثلج عن طريق البر، فتم تجهيز  اثنا عشرة مركز فيما بين نقطة خروج هجن الثلج حتى وصولها وتتمثل هذه المراكز في دمَشق، الصَّنمين، بانياس، أَربَد، بيبسان، جينين، قاقون، لُد، غزة، العريش، الورَّادة، الُمطيِلب، قَطيا، القُصير، الصالحية، بُلبيس، القلعة، وفي كل مركز من هذه المراكز ست هُجن: خمسة للأحمال، وهجين للهجان، وكل نقلة خمسة أحمال، وهذه الهُجن من الشام إلى العريش على المملكة الشامية، فيما عدا جينين فإنها على صَفَد، ومن الورادة إلى القلعة هُجن من المَنَاخات السُلطانية، والكلفة على مصر.
شخص يقطع قطع الثلج يمارس حديثا ما كان يتم قديما
وكان يتم نقل الثلج في شهري يونيو ونوفمبر، فيتم وضع الهُجن في هذه المراكز، وكان عدد نقلاته إحدى وسبعون نقلة، وأحيانًا كان عدد النقلات يزيد عن ذلك، وكان يصاحب عملية النقل البري هذه ثلاج خبير بحملة ومُداراته، ومنذ أن تقرر نقل الثلج عن طريق البر أصبح هو خاص المشروب، لأنه يصل أنظف وآمن عاقبة، مقارنة بذلك الثلج الوارد عبر البحر.
لذا وجب حمد الله سبحانه وتعالى على التكنولوجيا الحديثة التي وفرت لنا المبردات والثلاجات وجعلتنا نعيش في رفاهية ملوك مصر وسلاطينها في عهد الدولة المملوكية.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"