المترجمون في عهد الحملة الفرنسية


المترجمون في عهد الحملة الفرنسية
نقدم في هذه المقالة الجزء الأول من رسالة الماجستير الخاصة بالدكتور جمال الدين الشيال التي قدمها سنة 1946والتي تناول فيها "تاريخ الترجمة في عهد الحملة الفرنسية"، وفي هذه المقالة سنتعرف على المترجمين الذين شاركوا الحملة الفرنسية في تحقيق مصالحها، وكانت الترجمة في وقت الحملة الفرنسية على نوعين ترجمة رسمية وترجمة علمية، ومن الملاحظ أن نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية لم يجد صعوبة في الحصول على المترجمين الذين يعينونه في سبيل السيطرة على دولة لم تكن تتحدث لغته، ولم يكن هناك بينهم من يجيد الفرنسية وذلك لظروف تاريخية انتهت بمصر وبغيرها من الدول للانطواء على نفسها تجتر ماضيها وتركز دراستها على لغتها الغربية وبعض الدراسات الدينية وذلك في مركزها المعرفي الرئيسي وهو الأزهر الشريف.
كان أول من استعان بهم نابليون في سبيل تيسير أمر الترجمة من الفرنسية للعربية والعكس بعض المترجمين الفرنسيين الذين قدموا مع الحملة من فرنسا وقد تشكل من هؤلاء لجنة الترجمة وتكونت من "فانتور، ماجالون، لوماكا، أميدي جوبير، دلابورت، ريج، براسرفيش، بلتيت" وكان عمل هؤلاء ينصب بشكل أساسي في أعمال المجمع العلمي المصري والذي كان يضم العديد من العلماء المتخصصون في كثير من فروع المعرفة مثل الطب، والصيدلة، والرياضيات، والهندسة، والمعادن، والجغرافيا، والتاريخ، والآداب، والفنون، وطبقات الأرض.
نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام
وساهم عدد من هؤلاء المترجمون في الترجمة لنابليون بونابرت وكليبر ومينو قادة الحملة الفرنسية، بالإضافة إلى ترجمتهم الخاصة بالجوانب العلمية الخاصة بالمجمع، وإلى جانب هؤلاء المجموعة كان هناك عضوان من أعضاء المجمع العلمي وهما "جان يوسف مارسل" أحد كبار المستشرف الفرنسيين، وسوري مسيحي هو "الأب أنطوان رفاييل زاهور راهبة المخلصي".
وكان للحوادث التاريخية أثرها في التأثير على بعض البلاد وأهلها، فلما كانت بلاد الشام موطنًا لكثير من الإمارات الصليبية التي تكونت بها أثناء الحروب الصليبية أن تحول بعض أهلها من المسيحيين لاعتناق المذاهب الكاثوليكية وأصبحوا وثيقي الصلة بروما ومدارسها وكلياتها الدينية الأمر الذي مكنهم من اكتساب اللغة الإيطالية وبعضهم تعلم اللغة الفرنسية، كما أن العلاقات التجارية بين مصر ودويلات إيطاليا أن ساهمت في تأكيد تلك الروابط خاصة وأن كثير من الشوام الذي فروا من بلاد الشام لمصر واستقروا في مدنها الكبرى؛ القاهرة ودمياط والإسكندرية، أن ساعد على استمرار العلاقة الثقافية واللغوية بين الجانبين، وعليه فإن بعض هؤلاء دخلوا في خدمة الحملة الفرنسية وتوفير القادرون على الترجمة فيما بين الفرنسيين والمصريين.
ومن هؤلاء الشوام الذين اتصلوا بالفرنسيين وعملوا معهم في شئون الترجمة "عبود وميخائيل الصباغ وهما حفيدا إبراهيم الصباغ طبيب ظاهر العمر، بل إن ميخائيل الصباغ خرج مع الفرنسيين واتصل بالمستشرف الفرنسي "دي ساسي" وعُين مصححًا للكتب العربية في المطبعة العربية، وكذلك نقولا الترك المؤرخ الثاني للحملة الفرنسية بعد الجبرتي، والقس جبرائيل الطويل وخرج أيضًا مع الحملة الفرنسية وعُين استاذًا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ويعقوب بن يوسف الحلبي الماروني، ونصر الله النصراني ترجمان بليار، وإلياس فخر وكان ترجمان صغير بالديوان الذي أنشأه مينو.
وإلى جانب هؤلاء المترجمون كان هناك بعض الأسرى الذين وقعوا في يد الحملة الفرنسية أثناء طريقهم لمصر وذلك حين استيلائهم على جزيرة مالطة، فقد كان بها عدد من المغاربة والأتراك والعرب، وقد أطلق سراحهم وأخذوهم معهم لمصر وأطلقوهم في كل مكان يوزعون المنشور الذي تم طباعته على ظهر السفينة "الشرق" بين المصريين، ولم يتم الوقوف على أي اسم من هؤلاء حيث لم تذكر الكتب المعاصرة اسم واحد منهم.
من الصعب ان نجد بين هؤلاء المترجمون أي مصر يجيد الفرنسية سواء بين المسلمين أو المسيحيين، لكن كان هناك محاولة من جانب الفرنسيين باصطناع عدد من الشبان المصريين من الأقباط وتعليمهم اللغة الفرنسية، ولم ينبغ من هؤلاء غير "أليوس بقطر" فقد كان سنه عند مجيئ الحملة الفرنسية 15 عام، واتصل بالحملة وتعلم منهم اللغة الفرنسية وارتحل معها وعاش في مارسيليا حتى سنة 1812، وهنا أتقن اللغة الفرنسية تمامًا، وتم استدعاءه من مرسيليا لباريس ليشارك علماء الحملة الفرنسية في تحقيق الأسماء العربية الواردة في المصورات الجغرافية الواردة في كتاب "وصف مصر" كما قام بوضع قاموس عربي فرنسي سنة 1821، ثم عُين مدرسًا للغة العربية العامية بمدرسة اللغات الشرقية في باريس، لكن المنية عاجلته بعد أن انتهى من وضع قاموسه.
ويشير الجبرتي إلى ضعف هؤلاء المستخدمون في الترجمة وأن ترجمتهم كانت ركيكة، حتى أنه كان يُعرض عن ذكر كثير من تلك المراسلات لضعف ترجمتها، وهو ما أشار إليه بشكل خاص في نصوص محاكمة "سليمان الحلبي" الذي قتل "كليبر" ولكنه لما وجد أن الناس تتشوق للاطلاع عليها فإنه ضمنها في تاريخه.
رسم تمثيلي يوضح قتل سليمان محمد امين الشهيبر بالحلبي لكليبر قائد الحملة الفرنسية1800
ولكن يبقى أنه رغم ذلك ساهم هؤلاء المترجمون سواء من خلال ترجمتهم الرسمية والعلمية فإنها كانت بداية لبناء جسر من العلاقات الثقافية والحضارية القوية بين عالمين، وقد ظهر تأثيرهم بشكل قوي، خاصة هؤلاء الشوام الذين ظلوا في مصر بعد خروج الحملة الفرنسية، في ظل بناء محمد علي لدولته الحديثة والنهوض بمشروعه الانفصالي.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"