ابن وحشية والهيروغليفية
ابن وحشية والهيروغليفية
استطاع العرب بفضل الإسلام أن يقيموا حضارة زاهية استمرت لفترة زمنية طويلة
امتدت فيما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر الميلادي، وقد حاز ممثلوا تلك
الحضارة قصب السبق في العديد من العلوم إلى جانب الحفاظ على التراث العلمي لمن
سبقوهم من حضارات، ولا ينكر منصف فضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة
الغربية حتى يومنا هذا. لكن هل من المنطقي أن تشمل إسهامات العلماء العرب
والمسلمون جميع المجالات العلمية تقريبًا، ابتداءً بنظم الحكم والإدارة وانتهاءًا
بالفنون والموسيقى، ألا يقتربوا مما عُرف باسم الخط الهيروغليفي؟
![]() |
ترجمة الخط الهيروغليفي عند ابن وحشية |
تحت عنوان "العرب والهيروغليفية" حاول الدكتور "علي فهمي
خشيم" أحد رموز الفكر والأدب الليبي أن يجيب على هذا التساؤل، وقد كانت
وسيلته لتقديم تلك الإجابة عن طريق تحقيقه وتقديمه لكتاب "شوق المستهام في
معرفة الرموز والأقلام" لمؤلفه أحمد بن وحشية النبطي، الذي عاش خلال
القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وقد احتوى كتابه على ثمانية أبواب تضم 93
فصلًا، يهمنا منها الفصل "الأول والثاني والثامن والتي ضمت بعض الأقلام
"الخطوط" المعروفة وأخرى غير معروفة، فضم الباب الأول الأقلام
"الكوفي، والمغربي والهندي"، وضم الباب الثاني الأقلام "السرياني،
والنبطي القديم، والعبراني، والبرباوي، والقمي، والمسند، والقلم اليوناني المسمى
قلم الحكماء"، أما الباب الثالث فضم أقلام الحكماء السبعة المشهورين وهم
"هرمس، وأقليمون، وأفلاطون، وفيثاغورس، واسقليبوس، وسقراط، وأرسطوس"،
أما فصول الكتاب "الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع" فقد
تناولت الحديث عن الطلاسم وما كان يعرف باسم "أقلام التعمية".
وقد أشار الدكتور "علي فهمي خُشيم" إلى جهود الدكتور "عكاشة
الدالي" من خلال كتابه "علم المصريات؛ الألفية المفقودة، مصر القديمة في
الكتابات العربية في العصر الوسيط" وفي هذا الكتاب أكد الدكتور عكاشة على
جهود العرب في محاولة التعرف على الكتابة المصرية القديمة
"الهيروغليفية" والسعي لفك رموزها وفهم معانيها، موضحًا دور الكثير من
الكُتاب العرب مثل ذي النون المصري، وابن عبد الحكم، واليعقوبي، وابن خرداذبة،
والرازي، والإصطخري، والشهرستاني، والقزويني، وأيوب بن مسلمة، وبن أُميل، وأبي
القاسم العراقي، وبالطبع معهم أحمد ابن وحشية.
والكتابة المصرية القديمة أو الهيروغليفية هي كلمة يونانية مكونة من مقطعين
Hiero "مقدس"، و Glypho "نقش" وبذلك فإن الكلمة تعني "الكتابة المقدسة"
وقد سماها اليونانيون بهذا الاسم لأنهم لم يعرفوا حقيقتها وجهلوا قراءتها، الأمر
الذي جعل معظم علماء تلك الفترة من المشاهير كهيرودوت وديودر الصقلي وتاسيتوس
يعتقدون أنها مجرد رموز سرية، وفي النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي جاء
مواطن مصري من الصعيد يدعى هورابولو ألف كتابًا بالقبطية بعنوان Heroglyphica، ضاع الكتاب ولم تبق سوى ترجمته اليونانية، أشار فيه إلى معاني
بعض الرموز الهيروغليفية، وقد تبلبلت الأفكار وتعددت حول اللغة المصرية القديمة فمن
قائل بأنها ذات دلالة دينية فالحية ترمز إلى الخلود، وأبوقردان يرمز للخير،
والنحلة ترمز للملك، وبين قائل بأنها حكمة سرية مخفية للفلاسفة الكهنة لا يفهمها
سوى أتباع حكمة السحر الصوفي.
وترجع أهمية كتاب أحمد بن وحشية إلى أنه همزة الوصل بين الاكتشافات الحديثة
التي تناولت الكتابة المصرية القديمة والتي أصبح الفضل في التوصل إليها وسبر
أغوارها إلى جهود العلماء الغربيين وخاصة جان فرانسوا شامبليون الذي حاز شهرته لكونه الذي تمكن
من فك رموز حجر رشيد، وبالتالي فتح الباب أمام تاريخ يتراوح بين ثلاثة وأربعة آلاف
عام قبل الميلاد، بكل ما يحتوي من جهود بشرية توصلت إلى علوم لا زالت أسرارها
مغلقة أمام علماء الألفية الثالثة ميلاديًا، دون النظر إلى جهود وفضل ابن وحشية
وغيره من علماء العرب الذين ضاعت جهودهم ولم يذكرهم أحد بخير في محاولاتهم فك رموز
الكتابة المصرية القديمة.
حجر رشيد |
حقيقة الأمر أن شامبليون، لا شك في جهوده، كان بين يديه كتاب "شوق
المستهام" لابن وحشية، وذلك لأن العالم جوزيف فون همر النمساوي كان قد حصل
على نسخة من كتاب شوق المستهام في القاهرة وقام بترجمة هذا الكتاب إلى الإنجليزية،
الأمر الذي يعني أن كتاب ابن وحشية كان متاحًا لشامبليون وغيره أثناء دراستهم لحجر
رشيد وسعيهم لحل رموز الكتابة المصرية القديمة، كما أن كتاب ابن وحشية قد أكد على
أن الكتابة المصرية القديمة كتابة صوتية وذلك قبل جهود شامبليون.
![]() |
شامبليون |
ميز ابن وحشية في كتابه بين بعض العلامات الهيروغليفية باعتبارها رموز
صوتية، وقد ذكر أن عدد الحروف المصرية 38 حرفًا، عارضًا تلك الحروف مع قيمتها
الصوتية تحتها، الأمر الذي يعني أنه لابد من دراسة جادة للتعرف على النطق الصحيح
لتلك الحروف ومن ثم للكتابة المصرية القديمة، ويقدم ابن وحشية في كتابة ما يشير
إلى دراسته لكثير من المصادر والجهود التي بذلت لمحاولة التعرف على الكتابة
المصرية القديمة ومنها كتاب "هورابولو" المعروف باسم
"هيروغليفكا" كذلك يلاحظ وجود تطابق بين تلك القوائم الطويلة للكلمات
المكتوبة بالرموز المصرية القديمة عند ابن وحشية وبين قائمة رموز السير "آلان
غاردنر" عالم المصريات الشهير.
لقد كان شامبليون على معرفة تامة باللغة العربية والعبرية، كان كتاب شوق
المستهام لابن وحشية متوفرًا باللغة العربية بفضل جوزيف همر كذلك، ولا شك أنه كان
على علم بما ذكره ابن النديم في كتابه "الفهرست" من أنه "ربما كانت
هذه الكتابات "المصرية القديمة" تراجم تؤدي إلى اللغة العربية"،
والمشهور أن شامبليون توصل لحل رموز المصرية القديمة من خلال مطابقة نصوصها مع
ترجمة النصين الديموطيقي واليوناني الموجودين معها في حجر رشيد، لكن لاشك أن هناك
حقيقة غير معلنة، وتظهر تلك الحقيقة في المجاملات اللطيفة والتي عبر عنها كاتبين
فرنسيين هما "R.S. Sale و D. Valbelle، من الإشارة لجهود همر في ترجمته
لشوق المستهام باعتبارها الإسهام الإنجليزي في عملية فك رموز المصرية القديمة دون إتيانهما
على أي ذكر لابن وحشية صاحب الكتاب الأصلي.
![]() |
جوزيف هامر |
ومن الكلمات العربية المستخدمة والتي تشير إلى أحد الرموز المصرية القديمة
كلمة "البرابي" وهي صيغة جمع تكسير الواحد منها "بربا" وهي
مشتقة من المصرية القديمة المكونة من مقطعين"بر ـ بأ"، و"بر"
تعني مسكن، قصر، بيت، و"بأ" تعني "روح" وبالتالي فبربا تعني
"بيت الروح" أي "المعبد" وفي هذه البرابي عرف العرب رموز
المصرية القديمة أو الهيروغليفية وحاولوا الوصول إلى أسرارها.
لاشك أن كتاب "ابن وحشية" كتاب على قدر كبير من الأهمية، وكان
على درجة كبيرة من الأهمية لشاملبون ومن عاصروه في محاولاتهم للوصول إلى فهم أسرار
اللغة المصرية القديمة أو كتابة البرابي كما عرفها الكتاب العرب، أو الهيروغليفية
كما عرفها اليونان، ولكن للأسف ضاع فضل وسبق "ابن وحشية" بل إنه لم يذكر
له دورًا وراح الفخر بأجمعه لشامبليون الذي لم يتبرأ من ابن وحشية وكتابه لكنه
تبرأ من اللغة العربية كلية ولم يذكرها من قريب أو بعيد في طريقه للحصول على المجد
والفخار الذي يرفل فيه حتى وقتنا الحالي.
أيــــــــــــــــــــــــــن الـــــــــــــــــــــــكتاب يا نــــــــــــــــــــــــصابيين ؟
ردحذف