اللغة الفرنسية وثورة مصر 1881م



اللغة الفرنسية وثورة مصر 1881م
أميل إلى تفضيل تسمية الثورة العرابية باسم ثورة 1881، لأنها ثورة الشعب المصري بأجمعه بكل فئاته وأطيافه، كما أن تسميتها القاصرة على أحمد عرابي يجعلها، وهو المقصود من التسمية، وكأنها محاولة من محاولات التمرد والعصيان من جانب عرابي ورفاقه وأن باقي الشعب برئ منها، الأمر الذي ظهر في تسميتها كذلك باسم "هوجة" عرابي.
أحمد باشا عرابي
هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى هزيمة ثورة مصر عام 1881 على يد بريطانيا ودخول الجيش البريطاني مدينة القاهرة في 14 سبتمبر 1882، ومن تلك العوامل الانقسام في صفوف الأمة بين الفريق المؤيد لعرابي من ناحية والفريق المؤيد للخديو توفيق والعناصر التركية والشركسية من ناحية أخرى، وإصدار السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فرمان بعصيان عرابي مما ساعد الإنجليز في استغلال حالة التناقض وتعميق هوة الخلافات التي كانت بين الفريقين، كذلك اختلاط هدف التخلص من التدخل الأجنبي وتحدي سلطة الخديو والتهديد بعزله ذلك لأن بعض العناصر التي كانت ترغب في الخلاص من التدخل الأجنبي والحفاظ على مصر مستقلة لم تكن ترغب في الخلاص من توفيق باعتباره ولي الأمر الفعلي بالبلاد، كذلك ظهور عناصر انهزامية في صفوف الوطنين كانت ترى الانصياع لرغبات الخديو والإنجليز  وعلى رأسهم محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، كما أن القدرات والإمكانيات العسكرية لم تكن لصالح القوات المصرية، أضف إلى ذلك معاداة الدول الأوربية الكبرى لأي ثورة وطنية من شأنها تغيير ميزان القوى الدولي وأوضاع الحكم القائمة على الملكية المستبدة.
محمود سامي باشا البارودي
إلى جانب تلك الأسباب والعوامل هناك عامل يبدو أنه بسيط لكنه كان فعال لدرجة كبيرة وغير ظاهرة، وهذا العامل قد أشار إليه مستر  أ. س. بلنت ذلك السياسي البريطاني الذي ينتمي لأسرة بريطانية عريقة، ومؤلف كتاب "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر"، وهذا العامل يتمثل في عدم قدرة كل من أحمد عرابي، وزير الجهادية (الحربية) والقائد الحقيقي للحركة الوطنية في تلك الفترة، و"محمود سامي البارودي"، وزير الجهادية  في وزارة شريف باشا ثم رئيس الوزراء بعد استقالة شريف باشا، على التحدث بالفرنسية، الأمر الذي جعل عرابي والبارودي يميلان إلى الاستعانة بأحد الضباط ذو الأصول التركية وهو "مصطفى فهمي" وزيرًا للخارجية.
هذا ويمكن أن ننقل وجهة نظر المستر بلنت كما ذكره في كتابه كالآتي "كان في الوزارة نقطة ضعف وهي أن محمود سامي البارودي أو عرابي أو غيرهما من الضباط المصريين يعرف لغة أجنبية، ولما كانت معرفة الفرنسية ضرورية للتفاهم مع القناصر فقد اختاروا رجلًا يعرفها ولكنه ليس من حزبهم ولا يرتأي مثل آرائهم، وكان هذا الرجل هو مصطفى باشا فهمي من طبقة الحكام وأحد أتباع شريف وأركان حزب إسماعيل في سنة 1878 والذي اشترك في مأساة إسماعيل باشا المفتش، وكان فزعه من تلك الحادثة هو سبب تحوله إلى المبادئ الدستورية، ولكنه كان مثل شريف باشا يحتقر زملاءه الفلاحين وقد أصابهم بضرر بليغ بعد ذلك إذ كان يصور قضيتهم في مراسلاته تصويرًا سيئًا، ولم يستطيعوا أن يدركوا هذه الحقيقة لجهلهم بالفرنسية إلا بعد فوات الأوان.
محمد باشا شريف
قد يكون لأحمد عرابي عذرًا في عدم تعلمه اللغة الفرنسية فهو مصري بسيط تعلم مبادئ القراءة والكتابة في كتاب قريته هرية رزنة بمحافظة الشرقية انضم للجيش المصري وقد ارتقى فيه في ظل حكم سعيد باشا إلى رتبة قائمقام، مستفيدًا من نظام الترقي بالامتحانات الأمر الذي انعكس على كفاءة العسكرية فقد كانت محدودة للغاية، ولا تقارن بما وصل إليه من جماهيرية ومكانة سياسية تخطت حدود مصر إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية، لكن إذا ما قبلنا أمر عدم إلمام عرابي للفرنسية فما هو عذر  محمود سامي البارودي ذو الأصول التركية، والذي يشبه عرابي في أنه لم يكمل تعليمه في المدرسة الحربية العليا واكتفى برتبة باشجاويش، ولكنه تعلم التركية والفارسية أثناء إقامته بالأستانة عام 1857، فلماذا لم يتعلم الفرنسية؟
مما يؤسف له أن "مصطفى فهمي" كان أحد اثنين ضغط أحمد عرابي على شريف باشا من أجل تعيينهما في وزارته التي تشكلت في سبتمبر 1881، وذلك إلى جانب "البارودي" ورغم أن البارودي ومصطفى فهمي كانا مستوزرًين في وزارة شريف باشا الثانية عام 1879، كان البارودي يتولى نظارة الأوقاف ونظارة المعارف العمومية، في حين تولى مصطفى فهمي نظارة الأشغال العمومية، فإن عرابي فضل استمرار البارودي ناظرًا للجهادية تلك الوزارة التي نالها بعد أحداث حادثة قصر النيل في فبراير 1881 وإقالة "عثمان رفقي" ناظر الجهادية وقتذاك وتم تعيينه بناء على مطالب عرابي للخديو توفيق آنذاك، كذلك فضل عرابي أن يحصل مصطفى فهمي على منصب وزارة الخارجية، كي يكون ممثلًا للحراك الوطني وهمزة الوصل بينهم وبين العالم الخارجي.
مصطفى باشا فهمي
رغم أن مستر "بلنت" لم يأت على ذكر أمثلة توضح ذلك الحكم الذي أدان فيه "مصطفى فهمي" فإن مسيرة الرجل السياسية باعتباره أكثر رؤساء الوزراء الذي ظلوا في المنصب في ظل الاحتلال البريطاني يعد دليلًا على قربه من سلطات الاحتلال ليس بعد الاحتلال البريطاني لمصر لكن قبل ذلك، فربما كانت القنوات الواصلة بينهم قائمة دون علم أحد، كما أن عدم اتهامه من قبل محكمة الثورة التي عقدها الاحتلال البريطاني لقادة الثورة العرابية من الأمور المثيرة للأمر.
وقديمًا قال الناس في كلامهم "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، وعليه فإنه ربما كانت اللغة الفرنسية أحد أسباب هزيمة الثورة المصرية الوطنية المشهورة باسم ثورة عرابي لعدم معرفة عرابي والبارودي للغة الفرنسية واعتمادهم على شخص ظنوا فيه الوطنية، فاحتال عليهم وكان عينًا وجاسوسًا لصالح البريطانيين وغيرهم ممن تنازعت مصالحهم مع مصالح الحركة الوطنية في البلاد.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"