طريق الحبر .... The Ink Road

طريق الحبر .... Ink Road
في حوالي عام 1235 تأسست إمبراطورية مالي وهي واحدة من أقوى إمبراطوريات غربي أفريقيا وقد ظلت تلك الإمبراطورية قائمة حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر أي حتى عام 1670، امتدت امبراطورية مالي على مساحة قدرت بنحو 1.5 مليون كم2 حيث ضمت أراضي من دول "مالي، موريتانيا، السنغال، جامبيا، غينيا، غينيا بيساو، النيجر" وكان نصف حوض نهر النيجر يقع ضمن أراضي الإمبراطورية. وقد تناول العديد من المؤرخين المسلمين تلك الإمبراطورية بالحديث وكان على رأس هؤلاء المؤرخ "ابن فضل الله العمري" وذلك في كتابه مسالك الأبصار الذي يعد أحد المصادر الخاصة عن تلك الإمبراطورية، كذلك فإن ابن بطوطة زار إمبراطورية مالي عام 1352 وقد انبهر من شدة ثرائها وغناها، لدرجة أنه أكد على أنه لم ير مثل ذلك الثراء سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي، مؤكدًا على شيوع الأمن والطمأنينة التامة لدرجة أن المواطن أو الزائر لا يخشى على نفسه لا من السرقة ولا قطاع الطرق.
دولة مالي

وقد بنت إمبراطورية مالي قوتها على العديد من الموارد الإقتصادية وكان أهم مصادر ثراء وقوة تلك الإمبراطورية معدن الذهب والنحاس بالإضافة إلى الملح، وقد انعكس ثراء تلك الإمبراطورية على قوتها الديموغرافية حيث قدر عدد سكانها بنحو 45 مليون نسمة، وهو حجم سكاني ليس بالضئيل خاصة وإذا علمنا أن سكان العالم في القرن الخامس عشر قد قدر بنحو 500 مليون نسمة، ولكي تحمي تلك الإمبراطورية نفسها كان عليها أن تكون جيشًا شارك فيه جميع القبائل المكونة لسكانها، وقد قدر حجم ذلك الجيش بنحو 100 ألف.
ولكن رغم ثراء إمبراطورية مالي الإقتصادي وتعدد مواردها الاقتصادية يبقى هناك واحد من أهم ملامح ثراء تلك الإمبراطورية وأقصد به هو الثراء المعرفي والعلمي والثقافي الذي امتازت به تلك الإمبراطورية، الأمر الذي يجعل تلك الإمبراطورية في مصاف الدول الرائدة في تلك الفترة التاريخية في المجال المعرفي والعلمي، وكانت مدينة تمبكتو هي مصدر فخر وثراء تلك الإمبراطورية. تأسست مدينة تمبكتو في بداية القرن الحادي عشر، وقيل أن اسمها يعني حافظة الأمانات وقد عرفت بهذا الاسم نسبة إلى امرأة كانت تقطن هذا المكان الذي أنشئت فيه المدينة اسمها "تن بكتاون" اشتهرت بحفظ الأمانات للسكان الرحل، وقد اشتهرت مدينة تمبكتو بأنها ضمت واحدة من اقدم وأشهر الجامعات الإسلامية وذلك في القرن الخامس عشر وهي جامعة "تمبكتو" وكانت تتكون من ثلاثة مدارس وكل مدرسة توجد بمسجد وهي مساجد "سانكوري، وسيدي يحي، وجينجيربير"، وكانت مدرسة مسجد سانكوري هي أشهر تلك المدارس الثلاثة، وكان التعليم فيها يقوم على انضمام الطالب لحلقة التعليم المفتوحة التي يرأسها الإمام، وفيها يدرس الطالب إلى جانب القرآن بعض العلوم الأخرى مثل التاريخ وعلم الفلك والرياضيات والمنطق.
وكان سكان وعلماء مدينة تمبكتو يفتخرون بمدينتهم، وكان لهم قول مشهور بأنه "إذا كان الذهب يأتي من الجنوب والملح من الشمال فإن كلمة الله وكنوز الحكمة تأتي من تمبكتو"، وقد كانت المدينة تضم العديد من المكتبات الخاصة والعامة، فقدر أن هناك حوالي 100 ألف مخطوطة كانت بحوزة كبار أسر مدينة تمبكتو، وقد قدر أنه كان بتلك المدينة ما بين 60-80 مكتبة خاصة ناهيك عن قرابة 300-700 ألف مخطوطة تسعى حكومة مالي الآن إلى جمعها وتصنيفها بمساعدة هيئة اليونسكو.
واحدة من مليون مخطوطة بمدينة تمبكتو موضوعها عن الفلك

وللدلالة على مدى الاهتمام بالمعرفة والعلم أن إمبراطورية مالي وما تلاها من إمبراطوريات مثل إمبراطورية سونجاي كانت تمثل ضلع رئيس من أضلاع ما كان يعرف باسم "طريق الحبر الأفريقي African Ink Road الذي كان يمتد فيما بين غربي أفريقيا وشرقيها متصلة بشمالها، فيما يشبه حرف U، فمن الغرب تمتد لتتصل ببلاد المغرب العربي والأندلس شمالًا، وفي الشرق تمتد لتتصل بمصر، وذلك الطريق دليل على مدى الثراء الذي عاشته قارة أفريقيا وسكانها قبل تعرضها لهجمات البرتغاليين الطامعين في ثروتها الاقتصادية والبشرية. وكان للمؤرخ "ليو الأفريقي أو حسن بن محمد الوزان الفاسي 1494-1554" فضلًا كبيرًا في تعريفنا بواحد من أهم الحكام الذي أولوا عنايتهم بمدينة تمبكتو وجامعتها وهو "محمد تور" الذي عرف باسم "سكايا" وتعني في لغة سونجاي مغتصب السلطة، فقد ساهم هذا الحكم في نشر العلم والمعرفة في ارجاء إمبراطوريته "إمبراطورية سونجاي" واهتم بتدريس اللغة العربية والإسلام في مدارس إمبراطوريته، وقد اهتم بشكل كبير بمدارس تمبكتو الإسلامية.
الجامع الكبير في جينيه

وإلى جانب دور الملوك والحكام فإن أهالي مدينة تمبكتو من التجار الأثرياء قد ساهموا في حياة المدينة الثقافية فكان مثال لتزاوج المال والمعرفة وقدر أن عروس الصحراء "تمبكتو" كان بها 180 مدرسة تضم أكثر من 25 الف طالب علم وأن مستوى التعليم فيها كان لا يقل عن مستوى التعليم في مدن مثل قرطبة بالأندلس أو القاهرة بمصر أو تلمسان بالجزائر. لا شك أن البشرية قد فقدت الكثير والكثير بتراجع وانحدار دول وممالك غربي أفريقيا وذلك نتيجة لما تعرضت له من عملية إفقار بشري نتيجة لقيام الأوربيين بأسر ونقل سكان غربي أفريقيا عبر واحدة من أسوء وأحقر ما قام به الرجل الأبيض الأوربي تجاه سكان قارة أفريقيا، الأمر الذي ترتب عليه صدمة كبيرة لسكان غربي أفريقيا وثرائها الاقتصادي والعلمي، وقد اكتمل هذا العمل باستعمار أتى على ما تبقى لدى تلك الدول وسكانها الأمر الذي جعلها الآن تقبع في مؤخرة الترتيب الدولي في كل شيء يساعدها على هذا البقاء والتذيل شركات الغرب التي لا زالت تستنزف ثروات وموارد تلك الدول الطبيعية والبشرية.

 
طرق التجارة في الصحراء الكبرى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"