أنتم ثلاثة جنود وأنا رابعكم
"أنتم ثلاثة جنود وأنا رابعكم"
من الغرائب التي لا تكاد تصدق أن قائل هذه العبارة الخديو محمد توفيق ذلك
الرجل الذي قامت في عهده واحدة من أهم الحركات التحررية والوطنية في مصر والتي لو
قدر لها النجاح لكان وضع مصر والمصريين في مكانة لا تقل عن مكانة الدول المتقدمة في
عالمنا اليوم، وقد اعتبر الخديو نفسه رابعًا أما الثلاثة الآخرون فهم "أحمد
عرابي، وعبد العال حلمي، وعلي فهمي".
كما ذكرت أعلى فإن قائل هذه العبارة هو خديو مصر محمد توفيق الرجل الذي
ارتقى عرش البلاد عام 1879 بعد أن ضغطت بريطانيا وفرنسا على السلطان العثماني
"عبد الحميد" لإقالة والده الخديو إسماعيل الذي رهن تاريخ مصر السياسي
والاقتصادي والاجتماعي جراء الديون الذي أثقل بها خزانة البلاد والعباد حتى تم
سدادها جميعًا في أربعينيات القرن العشرين، كان هدف إسماعيل أن يجعل مصر قطعة من
أوربا، وقد تحقق هدفه ولكن بعد أن صارت خاضعة للاحتلال البريطاني بعد أن أفشل
الجندي الرابع "توفيق" ثورتها وحركتها الوطنية التي قامت منذ فبراير عام
1881.
كان الخديو توفيق ضعيف الشخصية وقد اتفق الكثير حول هذا الرأي، ولم يكن همه
في حياة أبيه إلا جمع المال وزيادة ثروته وكان يأخذ الهدايا من جميع المتقدمين
بعراض لأبيه وكانوا يعتقدون أنهم برشوتهم توفيق يستطيعون تحقيق أغراضهم عند والده
إسماعيل، وقد وعد توفيق في بداية توليه الحكم أن يمنح البلاد دستورًا يحقق أحلامها
ووعد شريف باشا "رئيس الوزراء" في أواخر عهد أبيه وأوائل عهده بهذا
الأمر، لكنه ما أن وقع تحت نفوذ القناصل حتى نكص على عقبيه الأمر الذي جعل شريف
باشا يتقدم باستقالته ويشكل رياض باشا وزارة جديدة خاضعة قلبًا وقالبًا لأصحاب
المصالح من الدول الأوربية خاصة فرنسا وإنجلترا صاحبتا أكبر نسبة من الدين المصري.
![]() |
الخديو محمد توفيق |
![]() |
الضباط الثلاثة عبد العال حلمي يمينا وعلي فهمي يسارا وأحمد عرابي في الوسط |
لا شك أن الخديو كان في غاية القلق من حركة الجيش التي ربما يصل بها الأمر
إلى أن تخلعه وتضع بدلًا منه حليم باشا أو تعلن النظام الجمهوري، وبعد أن كان
الخديو على صلة بحزب عرابي ويتودد إليهم بالرسائل عبر قناته الممثلة في الضابط
"علي فهمي" تراجع قليلًا بعد أن وجد أن عرابي ليس بمفرده وأن حزب
المطالبين بالدستور ضم الكثير وعلى رأسهم شريف باشا وسلطان باشا ومحمود سامي
البارودي وقد دبرت مظاهرة سبتمبر بناء على رأيهما ورأي غيرهما، في الوقت الذي كان
فيه الشيخ محمد عبده محسوبًا على حزب رياض ولم يكن من رأيه الثورة وكان قانعًا
بالحصول على دستور في ظرف خمس سنوات كما أنه لم يوافق على عزل رياض باشا، ولما
أخبر عرابي الخديو يوم 8 سبتمبر أي قبل مظاهرتهم بيوم واحد وأنهم سيتجهون إلى قصر
عابدين باعتباره المقر الرسمي للخديو وليس إلى قصر الإسماعيلية حرصًا على عدم
إخافة نساء وحريم الخديو، إنضم الخديو إلى عرابي وكان في غاية السرور بأن تضمن
المطالب إقالة رياض باشا ووزارته.
وهنا لابد من الإشارة إلى رأي اشترك فيه بعض المنصفين وعلى رأسهم الشيخ
محمد عبده وهو أن الرغبة في عزل "رياض باشا" كانت عديدة الأسباب، وكانت
أسباب كبار أعيان البلاد على النقيض من مطالب عرابي ورفاقه فإن كان عرابي يطالب
بحق الضباط المصريين في الترقي كغيرهم من الضباط الشراكسة، فإن أعيان البلاد كانوا
ضد رياض باشا لأنه منعهم من تسخير الفلاحين، ومن ثم فإن المصريين في الجيش كانوا
يعانون التهميش والمصريون في القرى والأرياف يعانون السخرة والعبودية، الأولون
يقومون بثورة للمطالبة بحقهم في الترقي والآخرون يشتركون في تلك الثورة كي يظلوا
فوق القانون في قراهم ونجوعهم يستعبدون أبناء جلدتهم باسم الثورة.
ولما كان الخديو توفيق ضعيف الشخصية وكثير التردد للدرجة التي جعلته يحاول
أن يمسك العصى من المنتصف بأن يظهر للطرفين المتصارعين عرابي والدول الأوربية وفي
مقدمتهم إنجلترا وفرنسا أنه إلى جانبهما وذلك لتحين الفرصة ليميل إلى الجانب
المنتصر، انتهى إلى أن وقف في وجه تقدم بلاده ورقيها ولو أنه اختار بني وطنه لتغير
بالتأكيد تاريخ مصر والمنطقة بأكملها بل ومستقبلها، خاصة وأن التدخل الأوربي كان
بحجة حماية مركز الخديو ولكن في نفس الوقت لا يمكن إلا أن نلوم عرابي كذلك لأنه
كان لين العريكة تجاه الخديو وكان من الممكن أن يجبر الخديو على الوقوف إلى صفهم
لو أنه ضيق على دائرة التحرك ومنعه من الإتصال بالقناصل الأوربيين أو السفر إلى
الإسكندرية في وقت كانت فيه الأحداث في طريقها للاشتعال، الأمر الذي جعل الخديو
يضع نفسه تحت إمرة الإنجليز يأتمر بأوامرهم ويرهن مستقبل البلاد والعباد لهم.
![]() |
صور من ضرب قلاع وتحصينات الإسكندرية 11يوليو 1882 |
![]() |
محمود سامي البارودي رئيس الوزراء 1882 |
وعليه فإن قول الخديو توفيق للضابط "علي فهمي" أنتم ثلاثة جنود
وأنا رابعكم كانت خدعة وفخ أوقع فيه الخديو هؤلاء الضباط الذين أحسنوا الظن
بحاكمهم، بل إنه لم يراع ذلك الضابط الذي استغله في إيصال رسائل أضاعت عليهم الوقت
وجعلتهم يظنون أن الخديو يوافقهم الرأي والعمل، وكان جزاء علي فهمي كجزاء سمنار،
وألقى به مع الستة الكبار إلى المنفى في سيلان بعد أن جردوا من رتبهم ونياشينهم
وتم مصادرة أموالهم وأملاكهم وكان هؤلاء السبعة "أحمد عرابي، وعلي فهمي، وعبد
العال حلمي، ومحمود فهمي، ومحمود سامي البارودي، وطلبة عصمت، ويعقوب باشا
سامي".
وقدر لعلي فهمي أن يعود لوطنه مرة أخرى عام 1901 مع عرابي وقد سبقهم
البارودي بالعودة للبلاد بعد أن فقد بصره عام 1900، كذلك عاد طلبة عصمت بعد أن
ساءت حالته الصحية كثيرًا في نفس العام لكنه لم يمكث طويلًا ومات ودفن بالقاهرة،
أما باقي العظماء السبعة "محمود فهمي وعبد العال حلمي، ويعقوب باشا سامي"
فماتوا في سيلان، فتوفى عبد العال حلمي عام 1891 ودفن بمدينة كولمبو العاصمة ومات
محمود باشا في عام 1894 ودفن بمدينة كندي ودفن إلى جواره يعقوب باشا سامي بعد
وفاته عام 1900، فرحمة الله على شهداء وطننا ممن ضحوا بأنفسهم من أجل الحرية ومن
أجل الكرامة، وأتمنى أن تجمع رفات هؤلاء الأبطال لتعود إلى وطنهم شاهدة على عظيم
تضحيات أبناءه.
![]() |
احمد عرابي 1900 |
تعليقات
إرسال تعليق