هل توقف الحج في أي عام من الأعوام؟

إن بيت الله الحرام قد جعله الله -تعالى- مهوى للأفئدة؛ فلا ينقطع الشوق لزيارته، وملء العيون بأنواره، والبشرية جيلاً بعد جيل يصطفي الله منها من يزوره في بيته، وقلما يخلو هذا البيت من الزوار. ولكن التاريخ قد سجّل أوقاتًا لم يحج الناس فيها إلى البيت العتيق. وذلك على العكس من البيت المعمور، الذي لا يخلو أبدًا أبدًا من الزائرين من الملائكة منذ الأزل وحتى قيام الساعة. ففي حديث المعراج وبعد وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- للسماء السابعة رفع له البيت المعمور، فسأل جبريل -عليه السلام- عنه فقال: “هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. وباستقراء كتب التاريخ وقفنا على بعض الأوقات التي خلا فيه البيت العتيق من الزوّار كليًّا أو جزئيًّا. والخلو الكليّ للبيت العتيق -فيما أرى- لا يعني أنه لم يزر البيت زائر، ولكني أظن أنه قد تعطل وصول الوفود من أغلب الأقطار؛ إذ لا يمكن أن يتصور أن أهل مكة لن يتمكنوا من الحج والزيارة، وهم أهل الحرم الأصلاء. وهذا الخلو الكليّ قليل جدًّا، ونادر الحدوث في هذه الأمة. لكن الخلو الجزئي هو الذي تكرر كثيرًا؛ إذ لا تستطيع جهة من الجهات أو قطر من الأقطار أو عدة أقطار أن تصل إلى البيت الحرام. أما عن الأسباب التي حالت دون وصول البعض إلى بيت الله الحرام فنجدها في الآتي: 1- القرامطة الذين عاثوا في شبه الجزيرة العربية وما جاورها من بلاد العراق والشام الكثير من الفساد ومنعوا حجيج الله الحرام من الوصول لبيت الله، بل إنهم أخذو الحجر الأسود وظل عندهم لفترة طويلة بلغت اثنتين وعشرين سنة منذ عام 317 ه 2- الصراع بين الولاة والخلفاء والدول الإسلامية القائمة خلال تلك الفترة، وضعف أمر الخلافة حتى أن الجند كانوا يحدقون بدار الخلافة ويجبرون الخليفة على الخروج إليهم، وتعيين من يرضونه في الوزارة، واستقل نواب الأطراف بالتصرف فيها، ولم يعد للخليفة أمرًا ولا نهيًا حتى في بغداد نفسها. 3- بعض الظروف الطبيعية مثل الجفاف أو البرودة الشديدة 4- العربان وتعديهم على الحجيج وقوة العربان لم تكن تتأتى إلا بضعف الدولة الإسلامية وعدم اهتمامها بالحجيج وشعيرته 5- الفتن الداخلية سواء ما كان يقع منها داخل بلاد الحجاز أو خارجها في بلاد المسلمين فينقع حجيج تلك البلاد عن القيام بشعيرة الحج. 6- الاحتلال ووقوع الكثير من المسلمين تحت قبضة بعد القوى التي منعت المسلمين من إتمام شعائر الحج كما حدث في ظل دولة الاتحاد السوفيتي ونظامها الشيوعي
ويعتبر العام السادس الهجري هو العام الوحيد الذي منُع فيه المسلمين من دخول مكة، وذلك بعد رفض قريش أن يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعقدوا مع النبي عليه الصلاة والسلام صلحًا هو صلح الحديبية، واتفقوا على أن يرجع هذا العام ويعود للعمرة العام القادم أي العام السابع من الهجرة. فإذا نظرنا إلى أحداث في سنة اثنتين وسبعين هجرية حيث حاصر الحجاج بن يوسف الثقفي عبد الله بن الزبير بن العوام في المسجد الحرام، ونصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وفي هذه السنة حج عبد الله بن عمر، فارسل إلى الحجاج أن أكفف هذه الحجارة عن الناس؛ فإن في شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا الفريضة ويزدادوا خيرًا، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فآكفف الرمي عنهم حتى يقضوا ما عليهم بمكة، فبطل الرمل حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، وحج بالناس الحجاجُ إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بالصفا والمروة؛ منعه ابن الزبير من ذلك فكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء، ولا يتطيب إلى أن قُتل ابن الزبير، ولم يمنع ابن الزبير الحج من الطواف والسعي، ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه؛ لأنهم لم يقفوا بعرفة ولم يرموا الجمار، ونحر ابن الزبير بُدنه مكة( ). فالشاهد أنه رغم هذه الأحداث الدامية والصراع بين الحجاج الثقفي وعبد الله بن الزبير إلا أن فريضة الحج قد تمت، وحج عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأكمل الحجاج حجته بعد أن قُتل عبد الله بن الزبير ودخل مكة المكرمة. وقد منع القرامطة حُجاج العراق أكثر من مرة من الوصول إلى مكة لأداء مناسك الحج والعمرة، ومعنى حجاج العراق لا يقتصر على بلاد الرافدين فقط، لكنه مصطلح يشمل جميع المسلمين القاطنين إلى الشرق من العراق، في إيران وخراسان ووسط آسيا، الذين كانوا يأتوا برًا للحج، ويتجهون عبر طريق الحج العراقي إلى مكة المكرمة. ففي سنة سبع عشرة وثلاثمائة هجرية فيها حج الناس من بغداد وأميرهم منصور الديلمي، وسلموا في الطريق من القرمطي، ودخلوا مكة سالمين، ودخل صاحب البحرين أبو طاهر سليمان بن أبي ربيعة الحسن القرمطي مكة، وحضر عمر بن الحسن بن عبد العزيز لإقامة الحج خليفة لأبيه، فلم يشعر الناس يوم الاثنين يوم التروية، وقيل في يوم السابع من ذي الحجة، إلا وقد وافاهم عدو الله أبو طاهر القرمطي في تسعمائة من أصحابه؛ فدخلوا المسجد الحرام وأبو طاهر سكران راكب فرسًا له، وبيده سيف مسلول، فصفر لفرسه فبال عند البيت، وأسرف هو أصحابه في قتل الحجاج وأسرهم ونهبهم، مع هتكه لحرمة البيت، وكان الناس يطوفون حول البيت والسيوف تقرضهم، وقتل في المسجد الحرام ألف وسبعمائة، وقيل ثلاثة عشر ألفا من الرجال والنساء وهم متعلقون بالكعبة، وردم بهم زمزم حتى ملئوها، وفرش بهم المسجد الحرام وما يليه، وقيل دفن البقية في المسجد بلا غسل ولا صلاة، وقتل في سكك مكة وظاهرها وشعابها من أهل خراسان والمغاربة وغيرهم ثلاثين ألفًا، وسَبَى من النساء والصبيان مثل ذلك، وبالرغم من هذه الأحداث الدامية فإن الحج قد تم بعدد يسير للغاية أتموا حجهم دون إمام. ومنذ العام السادس من الهجرة حتى وقتنا هذا لم يُمنع مسلم من الطواف بالبيت الحرام وأداء مناسك الحج والعمرة إلا لظروف حالت دون وصوله أو إتمام المناسك، وحسنًا فعلت قيادة المملكة العربية السعودية، خلال فترة انتشار فيروس كورونا أن أتمت مناسك الحج وأقامت الفريضة، حتى لو كانت الأعداد محدودة، فالأهم من الأعداد إتمام فريضة الله سبحانه وتعالى، وألا يتوقف المسلمون عن أداء فرائضهم الدينية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"