الموسويان

                                                                            الموسويان

في هذه المقالة سأتناول بالحديث رجلين كل منهما حمل اسم موسى، وهما القائد موسى بن نصير، والبطل موسى بن أبي الغسان. الفارق الزمني بينهما قرابة ثمانية قرون، وبالرغم من هذا الفارق الزمني الطويل إلا أن البطولة وحب الجهاد وفداء الإسلام وغيرها من صفات وسمات الفروسية كانت تملئ نفسيهما.

أما الأول، موسى بن نصير، فهو والي إفريقية والمغرب، وقد تولى ولايتها في عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان من قبل عبد العزيز بن مروان والي مصر وذلك في أواخر سنة 85ه/704م وقيل في أوائل عام 86هـ. نشأ موسى بن نصير في بيت له صلة مباشرة بالجندية، قريبًا من قادة الفتح الإسلامي، شارك في فتح قبرص في عام 28هـ عندما كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه واليًا على الشام في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. اكتسب موسى بن نصير الكثير من الخبرات العسكرية التي مكنته من أن يحكم السيطرة على المغرب الأقصى ويقضي على ثورات قبائله، وينشر الإسلام فيه. ولم يقتصر جهاد موسى بن نصير في البر بل تواصل في البحر فغزى "سردينيا" وهي جزيرة إيطالية، ومدينة سرقوسة وهي مدينة إيطالية أيضً، وعقد لابنه عبد الله ففتح جزيرتي "ميورقة" و "منورقة" الإسبانيتين.

كان جهاد موسى بن نصير العظيم في إسبانيا والبرتغال أو ما اشتهرا باسم "الأندلس"، وكان فتح الأندلس هو نتيجة طبيعية لتمام السيطرة على المغرب الأقصى، وضمان استقراره وعدم اضطرابه، وسواء كان هذا الفتح قد تم بعد اتفاق بين موسى بن نصير و"يوليان" حاكم سبتة، فإن جهاد المسلمين في الأندلس كان أمرًا حتميًا، خاصة وأن الأندلس أو شبه جزيرة ايبريا تكاد تكون الامتداد الطبيعي للمغرب الأقصى والفاصل بينهما ليس كبير لا يزيد عن 15كم عبر مضيق أعمدة هرقل، والذي عُرف فيما بعد باسم القائد "طارق بن زياد" الذي أرسله "موسى بن نصير" ليقود طلائع فتح الأندلس وذلك عام92ه/ 711م ويحقق فيها الكثير من الانتصارات، ثم تبعه "موسى بن نصير" لدعمه خاصة بعد أن أرسل إليه "طارق بن زياد" نداء استغاثه، فكان نعم المغيث فتم له فتح إشبيلية، ماردة، طليطلة، سرقسطة.

كان موسى بن نصير يعد العدة لاستكمال مسيرة الفتح، وكما تذكر بعض السير فإنه كان ينوي أن يعود إلى دار الخلافة في دمشق من ناحية القسطنطينية فيسير فيفتح روما ويجاهد في هذه البلاد حتى يفتحها الله عليه. إلا أن الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان اعتقد أن موسى بن نصير غرر بالمسلمين فاستدعاه إلى دمشق وذلك عام 96ه/ 714م، بعد أن ظل ذلك القائد العظيم في جهاد على مدى عشر سنوات، ففتح الله عليه الكثير من الأقاليم، ولم يكن الأمر مجرد فتح لأقاليم ودول، ولكن كان فتح للقلوب وتم عليه يديه تحول أهل المغرب إلى الإسلام وانتشر في ربوعها، وآخى بين العرب والبربر، فكانوا جميعًا يدًا واحدة همتها إعلاء كلمة التوحيد، وأبر أمثلة هذا التآخي هو القائد "طارق بن زياد" وهو من أصول بربرية ويعد من أكبر قادة الأندلس في عهد موسى بن نصير. وقد توفي موسى بن نصير في رحلة حج مع الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان في عام 97ه /715م.

الأندلس ـ شبه جزيرة أيبريا عام 910م

أما الثاني، موسى بن أبي الغسان، فهو أحد قادة المقاومة في إمارة "غرناطة" آخر الإمارات الإسلامية التي استولى عليها فرديناند وإيزابيلا ملكي أراجون وقشتالة، وبذلك انتهى وجود الدولة والحكم الإسلامي في الأندلس وذلك عام 897ه/ 1492م، بعد أن ظل الإسلام فيها لنحو ثمانية قرون، منذ افتتاحها والعبور إليها عام 92ه/711 م. في عام 895ه/1490م أرسل ملكي قشتالة وفدًا إلى "أبي عبد الله الصغير" حاكم غرناطة كي يطالبه بتسليمها، مع ضمان حقوق المسلمين فيها وفق معاهدة لم يتم تنفيذ ما جاء فيها، ومحاكم التفتيش شاهدة على ذلك. أدرك "الصغير"، وهو بالفعل كذلك، أن ليس أمامه إلا التسليم، خاصة وأن ما قام به من سياسة مهادنة فرديناند وايزابيلا، والتواطؤ معهما ضد عمه "أبو عبد الله الزغل" لم تكتب له استمراره في حكم غرناطة، بل أسرعت من القضاء على هذا المُلك وهذا الوجود الإسلامي بالأندلس.

بهو السباع أشهر أجنحة قصر الحمراء بغرناطة

وافق "الصغير" على المعاهدة لكن نفس "موسى بن أبي الغسان" الأبية رفضت هذا الاستسلام وقرر الموت ومن أقواله "ليعلم ملك النصارى أن العربي قد وُلد للجواد والرمح، فإذا طمع في سيوفنا فليكسبها، وليكسبها غالية، أما أنا فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموت فيه مدافعًا عنه، من أفخر قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين". وتولى موسى قيادة الفرسان يعاونه بعض المخلصين مثل نعيم بن رضوان، ومحمد بن رائدة، وتولى آلثغري حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون. لكن الحصار كان شديدًا، واستمر سبعة أشهر، واشتد الجوع والحرمان والمرض، وأعيد تقييم الموقف وأقر الملأ على التسليم، لكن موسى بن أبي غسان رفض ونادى باستمرار المقاومة، إلا أن نداءه ذهب أدراج الرياح، وتقرر تسليم غرناطة، وقام بهذه المهمة الوزير "أبو القاسم عبد الملك".

ظن "أبي عبد الله الصغير" أنه ضمن للمسلمين حقهم من خلال معاهدة، وصاح في قصر الحمراء "تالله لقد كتب لي أن أكون شقيًا، وأن يذهب الملك على يدي" لم يكن الأمر مجرد ملك فقط كما اعتقد "الصغير" لكنه كان وجود حضاري وإسلامي استمر لقرون، ولا زالت آثار ذلك الوجود قائمة في دولتي إسبانيا والبرتغال، كان الاستسلام ردة أستتبعها هجوم متواصل من قِبل إسبانيا والبرتغال على بلاد المغرب العربي، في محاولة لاحتلال شمال أفريقيا بأكمله، ومدينتي سبتة ومليلة المغربيتان المحتلتان من قبل إسبانيا شاهدتان على ذلك حتى وقتنا الحالي.

رسم تخيلي لتسليم غرناطة من ابي عبد الله الصغير لفرديناند وإيزابيلا

نهض موسى بن أبي الغسان وصاح: "لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدها، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشي والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاق والمحارق وهذا ما سوف نعاني وهو أقل من الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه". خرج موسى بن أبي الغسان وألقى بنفسه بين جنود فرديناند وإيزابيلا، مؤثرًا الشهادة على الاستسلام، قاتل على صهوة جواده حتى سقط جواده أسفله، وأصيب إصابات نافذة، وقد آثر موسى أن يلقي بنفسه في نهر شنيل على أن يقع أسيرًا في قبضة أعداءه.

مات موسى بن أبي الغسان بطلًا وكان حريًا بمثله بطلًا فارسًا أن ينتهي وجود الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس بمثل هذه البطولة وهذا الفداء، وأن يقدم هذا البطل الدليل على أن الجهاد في سبيل الله أسمى من التنعم في قصور الحمراء أو قصور المغرب في مليلة أو فاس حيث عاش "أبي عبد الله الصغير"، بعد أن أطل على غرناطة يبكي ملكه، لتصيح به أمه الأميرة "عائشة الحرة" قائلة "إبك مثل النساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال".

جامع قرطبة ـ تحول لمزار سياحي

انتهى وجود الدولة الإسلامية في الأندلس عام 897ه/ 1492م، لكن لم ينته وجود الإسلام فيها، فقد ظل الموريسيكيون، أي المسلمين الذين ظلوا في الأندلس، حتى عام 1614 حيث أجبروا على مغادرتها إلى شمال أفريقيا، ومن أراد أن يظل بها أُجبر على التنصر وترك الإسلام، ويقدر البعض أن نحو مليون مسلم تحول إلى النصرانية، بالرغم أن المسلمين على مدى ثمانية قرون لم ينتهجوا سياسة إجبار نصارى الأندلس أو يهودها على اعتناق الإسلام، وتقدر بعض الدراسات أن ما بين 7-10% من الأسر الإسبانية الآن تعود إلى أصول إسلامية تنصرت. ويبلغ عدد المسلمين الآن في إسبانيا نحو مليوني مسلم، يمثلون ما نسبته 4.5% من مجموع سكان إسبانيا، طبقًا لأرقام تعود لعام 2019.
طواحين هواء رأسية، وهذه التقنية أدخلها المسلمين لأول مرة بالأندلس

رحم الله موسى بن نصير، وموسى بن أبي الغسان، ورحم الله المجاهدين الذين نشروا دين الله في ربوع الأندلس، وتقبل الله شهدائهم، وأسكنهم الله فسيح جناته.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"