أورانكزيب ...... بقية الخلفاء الراشدين


أورانكزيب ..... بقية الخلفاء الراشدين
في شبه القارة الهندية استطاع المسلمون أن يقيموا العديد من دولهم منذ أن تم فتح بلاد السند والبنجاب (باكستان حاليًا) على يد محمد بن القاسم الثقفي، الذي ظل ست سنوات متواصلة فيما بين عامي 90/96 هجرية الموافق 709/715م، يواصل جهوده في ضم تلك البلاد إلى رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية. ومنذ ذلك التاريخ توالت جهود المسلمين الساعية لاختراق شبه القارة الهندية وضمها لدولة الإسلام.
انقطعت علاقة شبه القارة الهندية بمركز الدولة الإسلامية بعد انهيار الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، واستقل مصعب بن كعب التميمي ببلاد السند بعد سقوط الدولة الأموية،  ودخلت تلك الأقاليم التي سبق ضمها إلى حالة من الفوضى جراء تعدد الأسرات التي سعت لتأسيس حكمها فيها والسيطرة عليها، ، وكان من هؤلاء بني حباري، بني منبه، بني مادان، وهذا لا يعني محاولة الدولة العباسية لاستعادة سيطرتها على تلك الأقاليم من خلال إرسالها لحملات برية وبحرية مثل حملات "هشام" حاكم السند ومحاولته للسيطرة على كشمير وكاركوتا، لكن هذه المحاولات لم تحقق الرجاء منها وضاع ما استعيد من تلك الأقاليم بعد فترة قصيرة.
ومع ظهور الأسر التركية تبدأ مرحلة سياسية جديدة في شبه القارة الهندية، حيث تتابعت الأسرات التركية الحاكمة غير مكتفية بالسيطرة على بلاد السند والبنجاب فقط لكنها توسعت وتوغلت في أراضي شبه القارة جنوبًا وشرقًا، وكانت البداية مع الدولة الصفارية (861 -903م)، ورغم تلك الفترة الزمنية البسيطة إلى أنها استطاعت أن تحقق الأمن والاستقرار ، إلى أن تم القضاء عليها من قبل الدولة السامانية (819 – 999م) وإن لم تتمكن من السيطرة على جميع أراضي الدولة الصفارية، بسقوط الدولة السامانية وظهور الدولة الغزنوية (961 -1187) بدأ الأمر يأخذ منحى جديدًا، حيث بدأت الحملات تتوالى على داخل الهند خاصة في عهد محمود الغزنوي وذلك على رأس الألف الميلادية الأولى، بلغت حملات محمود الغزنوي في الهند سبعة عشر حملة وصلى إلى جنوب دهلي (دلهي الآن) بنحو 200 كم، كما وصل إلى نهر الجانج في الشرق، وأرسى بذلك دعائم الدولة التركية في شبه القارة الهندية، والأكثر أهمية هم تأسيسهم لنقطة ارتكاز في البنجاب انطلق منها الإسلام إلى باقي أرجاء شبه القارة.
امتداد الدولة الصفارية
حلت الدولة الغورية (879 -1215م) محل الدولة الغزنوية في شمال الهند في الفتر من (1150 - 1212) وقد استطاع الغوريون السيطرة على شمال الهند حتى ولاية جوجرات في الشرق، واستعادوا دلهي. ثم قامت دولة سلطنة دهلي والتي استمرت لفترة زمنية طويلة (1206 -1526م) وخلال تلك الفترة الطويلة تتابعت عدة سلالات مثل سلالة الغوري (1206- 1290)، ثم سلالة الخلجي (1290- 1320م)، ثم سلالة تغلق (1321- 1413م)، ثم بنو سيد (1414- 1451م)، ثم سلالة لودهي (1451- 1526م).

الدولة الخلجية
وقد ورثت الدولة المغولية (1526- 1857م) سلطنة دهلي وآخر سلالتها وهي سلالة لودهي، وفي عهد هذه الدولة تم السيطرة على شبه القارة الهندية تقريبًا، وقد وصلت إلى أقصى امتدادها وقمة أوجها في عهد الملك أورنكزيب الذي وصل إلى جنوب شبه القارة وذلك خلال 1686م، وقد انتهت هذه الدولة باحتلال بريطانيا لشبه القارة الهندية وقيام حكم الملكة فيكتوريا وحملها لقب إمبراطورة الهند.
والآن بعد هذا السرد التاريخي للأسر الحاكمة في شبه القارة الهندية والتي ابتدأ وجودها منذ بداية القرن الثامن الميلادي (709م) حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1857)، تعالوا لنتعرف على ذلك الملك الذي مثل علامة مميزة في تاريخ ملوك الدول والممالك الإسلامية في شبه القارة الهندية.
الدولة التغلقية
أورانكزيب عالمكير أو اورانجزيب (اورانكزيب بالفارسية تعني "زينة الملك"، عالم كير تعني جامع زمام العالم)، ولد عام 1618 في بلدة "دوحد" في كجرات بالهند ونشأ في بيت والده السلطان "شاه جهان" وهو واحد من اشهر ملوك الهند وباني مقبرة تاج محل الشهيرة لزوجته "ممتاز محل" وهي والدة "أورانكزيب"، كان رابع أخوته وهم داراشكوه، ومراد، وشجاع، ولكن الصراع على السلطة، خاصة بعد أن انفرد أكبرهم بها وهو "دارا شكوه" انتهى بسيطرة أورانكزيب على سدة الحكم سنة 1657م، ووضع والده في قلعة أكبر آباد بعد أن فقد عقله لوفاته زوجته، وظلي ينظر لمقبرتها مدة ثماني سنوات حتى وفاته عام 1666م.
تاج محل
ارتقى اورانكزيب سدة الحكم في عمر التاسعة والثلاثين وكانت تربيته على قدر كبير من الصلاح، فتم تنشئته تنشئة إسلامية على يد كبار العلماء، ونشأ محبًا للسنة وأهلها، وكان ناقمًا على محاولات جد أبيه السلطان جلال الدين أكبر لدعوته لذلك الدين الجديد المعروف بالدين الإلهي والتي وجد أثرها في عهد جده جهانكير، ولكن كان الله قد قيض للإسلام أحد علماء السنة وهو "أحمد بن عبد الله السرهندي" فحارب هذه البدع والتي كان لها أثرها الكبير على انتظام الأمر والابتعاد عن العادات والتقاليد الهندوسية والشيعية التي سيطرت على هذا البيت السلطاني.

أورانجزيب
أظهر أورانكزيب تمسكًا بشعائر الإسلام فحارب البدع والاحتفال بالأعياد الوثنية مثل عيد النيروز، ومنع تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له كعادة السلاطين قبله، واكتفى بتحية الإسلام منهيًا تلك الخطب التي كانت تقال لتحية السلاطين، كما منع دخول الخمر لبلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، وحفظ القرآن الكريم وهو سلطان، وأمر بتأليف كتاب للقضاة يفتون به على المذهب الحنفي وهو الكتاب الشهير باسم "الفتاوي الهندية أو الفتاوي العالمكيرية" نسبه للسلطان، ولم يمكنه الحج فاستعاض عن ذلك بكتابة مصحفين بخط يده وأرسل أحدهما لمكة والآخر للمدينة، وكان لا يفطر في رمضان إلا على ارغفة من الشعير من كسب يمينه من كتابة المصاحف لا من بيت مال المسلمين.
كان اورانكزيب قد تمرس على فنون الإدارة من خلال توليه حكم بعض الولايات والأقاليم الهندية، وكذلك كان قائدًا عسكريًا فذًا من خلال تدريبه الجيد والذي ظهر منذ صغره في شجاعته ومقاومته لأحد الفيلة التي أطاحت به من فوق حصانه، وقد آل السلطان على نفسه من أن تولى السلطة أن يأخذ بالعدل والحق وألا يدع الجهاد في سبيل الله، وذلك قائمًا بهذا الأمر على مدى  نصف قرن حتى توفاه الله عام 1707م، وبلغت دولة المغول قمتها في عهد اورانكزيب حيث مد سلطته حتى جنوب الهند.

مسجد بادشاهي في لاهور ـ باكستان
كان القضاء على الضرائب أحد إصلاحاته الاقتصادية في سبيل ترقية شئون البلاد، الأمر الذي مكن الناس من التوسع في استزراع الأراض الزراعية واستصلاحها، ونشطت التجارة في عهده، وقُدر عدد سكان الهند في عهد الملك أورانكزيب بنحو 160 مليون نسمة، يمثلون نحو 23% من إجمالي سكان العالم، وكانت دولة المغول أعلى تحضرًا من دول القارة الأوربية، فكان نسبة الحضر فيها تقدر بنحو 15%، ولم تصل دور قارة أوربا لمثل تلك النسبة، كذلك مثل اقتصاد دولة المغول في عهد الملك اورانكزيب نحو ربع اقتصاد العالم، بل تشير التقديرات إلى أن اقتصاد امبراطورية اورانكزييب كان يعادل اقتصاد كل من اسرة مينج الصينية ودول غرب أوربا مجتمعة، ولعل هذا أوضح دليل على مدى قوة وعظمة دولة المغول، وقد يكون أكبر أخطاء أورانكزيب إقامته لعلاقات تجارية قوية مع الإنجليز وسماحه لهم بإقامة وكالات على الساحل الغربي لشبه القارة في "كلكتا" لكنه لم يكن يدري أن هذه بداية جرثومة تكونت لتلتهم إمبراطوريته عام 1857، لكن حقيقة الأمر هذا ليس خطأ، فالملك كان يسعى لترقية شئون بلاده وإقامة علاقات طبيعية مع دول العالم، لكن الخطأ لدى الغرب وتمثلهم هنا بريطانيا ورغبتها في استنزاف ثروات الدول والشعوب عن طريق الاحتلال والاستعمار.
شهد عصر اورانكزيب العديد من معالم التقدم فكان اهتمامه بالعلم والعلماء وطلبة العلم اهتمامًا كبيرًا، فكثرت في عهده المدارس، وكانت موسوعة الفتاوي العالمكيرية دليل على ذلك الاهتمام، وقد طبع هذا الكتاب في مصر بعد نحو قرن من إصداره بالهند، كذلك اهتم بالجوانب الصحية والاجتماعية فأنشأ دورًا للعجزة والمستشفيات واقام الحمامات والاستراحات لأبناء السبيل، ومن آثاره مسجد "بادشاه" في لاهور وهو شاهد على حضارة عصره وازدهار دولته.

دولة المغول
ورغم هذا السلطان الواسع، والجاه العريض إلا أنه عند وفاته أمر أن يدفن في أقرب مقابر للمسلمين، والا يزيد ثمن كفنه عن خمس روبيات، فمات رحمه الله عام 1707 وكان آخر إمبراطور عظيم في دولة المغول بالهند، الأمر جعل الشيخ علي الطنطاوي (1909 -1999) يقول عنه أنه "بقية الخلفاء الراشدين" فرحمة الله على ذلك السلطان الذي كان له عظيم فضل على نشر الإسلام في ربوع شبه القارة الهندية، ومعاملة غير المسلمين بالحسنى الأمر الذي يفتقده المسلمون في الهند اليوم، فاللهم قيض لأخوتنا في الهند من يرفع شأنهم ويرد عنهم كيد الهندوس ومن عاونهم.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"