مراكز الفكر Think Tanks


مراكز الفكر Think Tanks
المفهوم والهدف:
ليس هناك ترجمة متفق عليها لمفهوم Think Tanks حيث يشير إليها البعض بأنه مراكز الفكر أو مراكز التفكير والبعض الآخر يشير إليها باسم حاويات أو مختبرات الفكر ويبتعد غيرهم عن هذه المصطلحات فيشيرون إليها باسم مراكز الأبحاث والدراسات، وقد عرفتها الوحدة الخاصة بجامعة بنسلفانيا من خلال تقرير "برنامج مراكز الفكر والمجتمعات المدنية TTCSP"  الذي يصدر بشكل سنوي منذ عام 2008 بأنها "مؤسسات الفكر والرأي التي تولد أبحاثًا وتحليلات ومشورة موجهة نحو السياسات بشأن القضايا المحلية والدولية، وبالتالي تمكين صانعي السياسات والجمهور من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن السياسة العامة.
وقد تكون هذه المؤسسات الفكرية تابعة أو مؤسسات مستقلة يتم تنظيمها كهيئات دائمة، ولست لجانًا مخصصة. وتعمل هذه المؤسسات كجسر بين الأوساط الاكاديمية ومجتمعات صنع السياسات وبين الدول والمجتمع المدني، حيث تخدم المصلحة العامة كصوت مستقل يترجم البحوث التطبيقية والأساسية إلى لغة مفهومة وموثوقة ومتاحة لصناع السياسات والجمهور، وعلى مدى التسعين عامًا الماضية برزت عدة أشكال تنظيمية متميزة من مراكز الفكر التي تميز نفسها من حيث أنماط التشغيل وأنماط التوظيف والتطلعات إلى المعايير الأكاديمية وتحقيق الكمال في البحث.
النشأة والبداية:
ويذكر دكتور معمر الخولي "أن مراكز الأبحاث نشأت داخل الجامعات في صورتها الأولى في العالم الغربي، حيث ظهرت أولى الجامعات الأوربية في القرن الثاني عشر الميلادي، وأن معظم هذه الجامعات أنشئت تقليدًا للجامعات الإسلامية في مرحلة الحروب الصليبية، وفي تلك الأثناء أسس ما يعرف بالكراسي العلمية، وكان أول هذه الكراسي هو تأسيس كراسي الدراسات الشرقية في بولونيا وفي روما وفي باريس، كما أنشئت وقفيات نقلًا أيضا عن الوقفيات الإسلامية، وكانت أول وقفية في بريطانيا اسمها وقفية "ديمورتن" في جامعة أكسفورد لتشجيع الدراسات الدينية بالتحديد، ثم كان تأسيس الكراسي العلمية هو الإرهاصات الأولى لتأسيس مراكز الأبحاث، ولكنها كانت مراكز أبحاث لإنتاج الأفكار، ليتم توظيفها بعد ذلك في السياسة، ولم تكن علاقاتها في بادئ الأمر بالسياسة بشكل مباشر، وظلت هذه المراكز والكراسي تنشأ وتنمو إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
في هذه الأثناء كان ظهور مراكز الأبحاث خارج الجامعة أن بدأ يعطي منحنى آخر للعلم وهو تسخيره لخدمة السياسة، حيث تم تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية ببريطانيا سنة 1831، ثم الجمعية الفابية عام 1844، وبعدها بدأت تلك المراكز في الانتشار في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لدعم كبار المتبرعين والمثقفين ورغبتهم في خلق مؤسسات يجتمع فيها الباحثون والقادة من القطاعين العام والخاص، لمناقشة القضايا العالمية والتداول بشأنها.
ومما يذكر فإن الأزمات كانت هي العامل الدافع لظهور تلك المراكز الفكرية، ولعل في نموذج شركة فابيان البريطانية التي تُعد عميدة مراكز الفكر العالمية، أكبر ذلك على ذلك، وكانت اول دراساتها عام 1889 تحت عنوان "لماذا الجماهير فقيرة؟" الامر الذي أعلن عن شغفها وتطلعها بدور الباحث عن العدالة الاجتماعية والإيمان بتقدم البشرية، وذلك على إثر تظاهرات عاملات عيدان الثقاب، واسم الجمعية كان مستوحى من القائد الروماني Quintus Fabius الذي كانت استراتيجيته تقوم على تأجيل المعركة إلى اللحظة المواتية.
مراكز الفكر المصرية ومكانتها:
هذا والغرض من هذه المقالة هو الوقوف على مراكز الفكر المصري في هذه القائمة التي تصدر بشكل سنوي من جامعة بنسلفانيا، وإمكانية متابعة التطور الطارئ على تلك المراكز فيما بين عامي 2008 و 2019، ففي عام 208 كان عدد المراكز المصرية بتلك القائمة اثنان فقط بين عدد 407 مركز، وهما "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" و"المركز المصري للدراسات الاقتصادية، وقد تطور هذا العدد ليصل إلى 55 مركزًا وذلك في تقرير عام 2014 ثم تراجع مرة أخرى ليصل إلى 34 مركزًا في قائمة 2019، والتي صدرت في مارس من عام 2020، وجاء ضمن هذه القائمة التي تضم أفضل 176 مركز فكري في العالم كل من؛ مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المركز المصري للدراسات الاقتصادية، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، منتد البحوث الاقتصادية، المجلس المصري للشئون الخارجية، مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، مركز بن خلدون للدراسات الإنمائية، المركز المصري لدراسات السياسة العامة، المنتدى العربي للبدائل، معهد التخطيط القومي.
ومن الملاحظ أن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في أول تقرير صدر عن جامعة بنسلفانياTTCSP كان يأتي في المركز الأول بين أفضل مراكز الفكر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك عام 2008، لكن المركز تراجع إلى المركز الثالث بعد كل من معهد دراسات الأمن القومي في "إسرائيل، ومركز كارنيجي في لبنان، الأمر الذي يعد مؤشر عن تراجع دور مركز الأهرام الذي يعد أقدم نشأة من سابقيه، لكن رغم ذلك فإن الإمكانيات البحثية لمعهد دراسات الامن القومي ومركز كارنيجي تفوقت على مركز الأهرام، بل إنه في فترة من الفترات تراجعت مكانة المركز في مصر وذلك في ظل تقدم  المركز المصري للدراسات الاقتصادية، الذي كان بمثابة المطبخ الخلفي للحكومة المصرية، خاصة وأن نشأته على يد جمال مبارك وعدد من كبار رجال الأعمال المصريين قد جعله بمثابة صانع الأحداث السياسية والاقتصادية، وكانت الكثير من التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر هي نتائج لأفكار وأبحاث ودراسات هذا المركز.
من الأمور اللافتة للانتباه أنه على الرغم من زيادة عدد مراكز الفكر التي تصدر في قائمة جامعة بنسلفانيا هذه إلا أن عدد مراكز الفكر المصرية المؤثرة في تراجع، رغم أن عددها في تزايد في عدد من دول المنطقة والإقليم، فنجد أن عدد مراكز الفكر في إسرائيل 69، وفي إيران 64، وفي تركيا 48، الأمر الذي لا يتناسب وقدرات مصر البشرية والعلمية، ولعل عامل التمويل يأتي على رأس هذه العوامل التي أدت لتراجع عدد مراكز الفكر المصري، الأمر الذي يظهر في تفوق "مركز كارنيجي ـ بيروت" على مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في قائمة أفضل 176 مركز عالمي حيث يحتل المركز الترتيب 21 عالميًا، كما لا ننكر أثر نزيف العقول المصرية وهجرتها للخارج حيث تجد الملاذ العلمي الآمن، وهو أمر مرتبط كذلك بطبيعة البحث العلمي الموجود في الدول المتقدمة بمقارنة بمصر، ولا شك أن البحث العلمي يرتبط بميزانية الدول، وكذلك مدى مساهمة الداعمين والمتبرعين لتلك المراكز، ويأتي عامل آخر وهو مدى توافر الجو المناسب للإبداع والقول بالرأي دون خوف، فالإبداع ابن الحرية، وطالما أن العقل يجد تقييدًا حول ما المتاح وغير المتاح؟ فمن الطبيعي أن ينجو برأيه ورأسه.
ورغم ذلك يظل إمكانية تعويض مراكز الفكر المصرية ما فاتها من الأمور اليسيرة، فإن عدد من الدول الإفريقية مثل كينيا وأثيوبيا واوغندا أصبح لها تواجد في قائمة أفضل 176 مركز في بضع سنين، والكفاءات العلمية المصرية متوفرة، وإعطاءها المساحة اللازمة للإبداع ليست من الصعوبة بمكان، والسعي للاستفادة من الطيور المهاجرة المصرية في الخارج ليست من الصعوبة بمكان، والاستفادة من خبراتهم واشراكهم في مراكز مصرية قائمة بالفعل أو الاستفادة من طروحاتهم ودعوتهم لتبادل الزيارات لتبادل الخبرات والوقوف على جوانب النقص في مراكز الفكر المصرية لعلاجها ليس بالأمر العسير.


تعليقات

  1. مجهود رائع يا دكتور ياسر .... بارك الله فيك .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"