المقريزي وكتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة


المقريزي وكتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة
يعد تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1364- 1442) واحدًا من كبار الكتاب والمؤرخين وألمعهم، وكان لمؤلفاته كبير الفضل في التعريف بكثير من الأحداث التاريخية،  وما ارتبط بها من جوانب اقتصادية وسياسية واجتماعية، ورغم شهرة المقريزي في المجال التاريخي المرتكز على مصر، إلا أننا نجد له إسهامات تاريخية أخرى في مجالات ثانية مثل كتابه تاريخ النقود العربية، وكتابه إمتاع الأسماع فيما للنبي من الحفدة والأتباع، وكتاب  الإلمام بمن في أرض الحبشة من ملوك الإسلام.
ويمتاز المقريزي عن غيره ممن كتب في هذا الفن أنه كان يبحث عن العلل التي تؤدي إلى تلك الأحداث التاريخية، وقد يرجع ذلك إلى نشأته التعليمية الدينية فقد نشأ وتعلم ليكون واحدًا من كبار الفقهاء والعلماء، مثله مثل أبيه، الذي انتقل من مدينة بعلبك حيث حارة المقارزة التي ينسب إليها المقريزي، إلى القاهرة ليتولى شئون القضاء فيها، كما أن نشأته هذه أهلته لأن يتولى العديد من الوظائف والمناصب فقد كان إمامًا بجامع الحاكم الفاطمي، وولي الخطابة في جامع عمرو بن العاص، ومدرسة السلطان حسن، وقراءة الحديث في المدرسة المؤيدية وغيرها من المناصب القضائية والإدارية، وتولى وظيفة  المحتسب في عهدي الظاهر برقوق وابنه فرج، كما أنه عُرض عليه أن يتولى منصب القضاء في دمشق، لكنه آثر في النهاية أن يتفرغ للعلم والتأليف وأن يسلم من مشاكل الوظيفة وأوجاعها.

تعددت مؤلفات المقريزي ما بين الكتابات الموسوعية والكتابات التخصصية، ومن بين مؤلفات الموسوعية الضخمة ذلك العمل الرائد الذي اشتهر باسمه وهو خطط المقريزي وهو كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وهو ذكر لخطط مصر والقاهرة، وهناك كذلك كتاب مجمع الفرائد ومنبع الفوائد وذكر ابن تغري بردي أن المقريزي أكمل منه نحو الثمانين مجلد، والسلوك في معرفة الملوك، اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، أما المؤلفات التخصصية فمنها كتابنا هذا قيد البحث إغاثة الأمة بكشف الغمة، والإشارة والإعلام ببناء الكعبة والبيت الحرام، والإلمام بمن في أرض الحبشة من ملوك الإسلام، وغيرها من الكتب التي كانت تتميز بالدقة والعمق.
كتاب إغاثة الأمة بكشف الغمة
وضع المقريزي هذا الكتاب في ظل ظروف نفسية سيئة تعرض لها وتمثلت في وفاة ابنته وحيدته في طاعون عام 806ه/1403 الذي تعرضت له البلاد، وذلك خلال فترة من الأزمات والمجاعات امتدت من عام 796ه حتى عام 808ه، ووجد المؤلف تلك الحادثة فرصة لأن يكتب عما مر بمصر في الماضي من شبيه تلك الأزمات والنكبات، وذلك منذ قبل طوفان سيدنا نوح حتى تأليف هذا الكتاب أو تلك الرسالة الصغيرة التي وضعها المؤلف في ليلة واحدة من ليالي شهر المحرم لسنة 808ه. وفي هذا الكتاب لم يكتف المؤلف بتعريف القارئ بأحداث لك الكوارث التي تعاقبت على البلاد وشعبها، ولكنه اتجه لإيضاح العوامل والأسباب التي أدت لتلك الأزمات والمجاعات والأوبئة التي وقعت فيها مصر، وقدم الحلول الواجب الأخذ بها لضمان عدم تكرار مثل هذه الأمور مرة أخرى، لكن الحقيقة أن هذه الأزمات لم تتوقف ولم تنته، حتى ولو أنها لم تعد في تلك الصورة التي كانت عليها من قبل، فإنها لا زالت مستمرة في أشكال أخرى تتمثل في ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض معدلات الإنتاج القومي، وتراجع معدلات الدخل الفردي، وارتفاع معدلات الفقر والأمية، وتراجع الدولة في العديد من المؤشرات التنموية والبيئية والصحية والتعليمية، عوز كثير من سكان المدن والقرى للمياه النقية والصرف الصحي.
أمثلة من الأزمات التي مرت على مصر:
أزمات العصور القديمة:
أخذ المؤلف في ذكر الأزمات والغلوات التي مرت على البلاد منذ عهد أفروس بن مناوش وقيل أنه الملك السابع عشر من ملوك مصر قبل الطوفان، وبالطبع هناك أسماء عديدة لا تتفق مع ما اعتدنا على سماعه من أسماء المصريين القدماء طبقًا لما نعرف باسم التاريخ الفرعوني، وهناك غلاء فرعان بن مسور وهو التاسع عشر من ملوك مصر قبل الطوفان، ثم كان غلاء أتريب بن مصرايم بن حام بن نوح ثالث عشر ملوك مصر بعد الطوفان، وقيل أن الذي رفع البلاء عن مصر في زمن أتريب هو دعاء سيدنا هود عليه السلام، ثم كان غلاء نهراوس وقيل اسمه الريان بن الوليد بن درمع العمليقي وقد دبر أمر هذا الغلاء سيدنا يوسف عليه السلام، بالقصة المشهورة التي أتى على ذكرها القرآن الكريم، "قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ" وكذلك الغلاء الذي وقع بمصر وقت مبعث سيدنا موسى عليه السلام، ودلت عليه الآية الكريمة "وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ".
أزمات العصور الوسطى الإسلامية:
كان أول غلاء وقت بمصر في ظل تاريخ الدولة الإسلامية في عهد إمارة عبد الله بن عبد الملك بن مروان وقد تشاءم به الناس لأنه اول غلاء بمصر، وأول شدة رآها المسلمون بمصر، وكان ذلك في عام 87ه، لكن يبدو أن مصر كانت على ميعاد بتعدد تلك الازمات والمجاعات والأوبئة والأمراض التي كان بعضها يرجع لأسباب طبيعية كتراجع النيل وعدم وفاءه أو ارتفاعه وطغيانه على الأراضي وبقاء المياه مرتفعة حتى فوات مواقيت الزراعة، أو لأسباب بشرية تمثلت في عدم الأمن والاستقرار وتداول السلطة والتناحر والتحارب وقيام دولة وسقوط أخرى.
وفيما بين هذا الغلاء الأول الواقع سنة 87ه/706م والغلاء الأخير الذي عاصره المقريزي سنة 808ه/1405م أي على مدى ثمانية قرون هجرية تقريبًا، دون المؤلف اثنى عشر غلاء وقعت بالبلاد، ومن ثم فإنه على مدى ثمانية قرون وقع بالبلاد أربعة عشر غلاء، أي بواقع غلاء كل سبع وخمسين عام، وبالطبع هذا تقدير حسابي وليس واقعي، فإن المستنصر بالله الحاكم الفاطمي وقع في عهده مرتين من الغلاء، وكذلك الغلاء الذي وقع في عهد الآمر بأحكام الله والحافظ لدين الله لم يفصل بينهم اكثر من عشرين عامًا، ومن الملاحظ أن الدولة الفاطمية قد حدث في عهدها ستة من أصل الأربعة عشر غلاء التي وقعت بمصر، وذلك خلال فترة حكمها للبلاد فيما بين عامي 358ه – 566ه/ 969-1171م،  خلال تلك الفترة التي ألف فيها المقريزي تلك الرسالة الصغيرة.
فكان هناك ذلك الغلاء الذي حدث في عهد الحاكم بأمر الله، سنة 387ه، وغلاء المستنصر  سنة 444ه، والغلاء الثاني في عهد المستنصر سنة 457ه وقد استمر هذا الغلاء سبع سنين، وغلاء الآمر بأحكام الله وذلك في عام 515ه، ثم غلاء الحافظ لدين الله في عهد وزارة الأفضل بن ولخشي وذلك فيما بين عامي 531-533ه، وغلاء الفائز بنصر الله وذلك سنة 554ه حيث لم يوف النيل هذه السنة، ولم تذكر كتب التاريخ وفي مقدمتهم المقريزي غلاء أسوء من غلاء المستنصر الثاني الذي وقع عام 457ه/1065م والذي استمر سبع سنوات، وفي هذا الغلاء أكل الناس الميتة والحيوانات كالكلاب والقطط وبالغ المقريزي وغيره بأن قال أن المصريين أكل بعضهم بعضًا بمعنى الكلمة، حتى أن وزير المستنصر جاءه يومًا على بلغته، فأكلتها العامة، فشنق طائفة منهم، فاجتمع عليهم النساء فأكلوهم.
ولم يقع مثل هذا الغلاء إلا في عهد السلطان العادل الأيوبي وذلك سنة 597ه، ففي تلك السنة لم يوف النيل وهب هواء اعقبه وباء وفناء وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يكل ابنه مشويًا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها، وفشا الأمر فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمة، ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار، فينظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل، وأكثر ما وجد ذلك في أكابر البيوت، ووجدت لحوم الأطفال بالأسواق والطرقات مع الرجال والنساء مختفية وغُرِّق في دون شهرين ثلاثون امرأة بسبب ذلك، وتزايد الأمر حتى ألف الناس لحوم بني آدم.
أسباب هذه الأزمات والغلوات:
ميز المقريزي بين مجموعتين من العوامل والأسباب التي أدت لتلك الأزمات؛ الأولى وهي العوامل الطبيعية، والثانية وهي العوامل البشرية.
العوامل الطبيعية:
1- نهر النيل: لما كانت مصر تعتمد على نهر النيل في حياتها فإن مقياس النهر كان هو المحدد لهذه الحياة رخاء أو شقاء، كان المصريون ينتظرون الفيضان كل عام وكان وفاء النيل معناه أن معظم الأراضي المصرية تزرع ويعم الرخاء والرفاء، لكن عدم الوفاء أو الشرق كان معناه ان الأراضي لا تغمرها مياه النيل، وبالتالي تنعدم الأقوات ويعم الجوع ويكثر الموتان، أو أن يحدث العكس فيكون الغرق فتبقى المياه على الأراضي ولا تتراجع فيفوت على المزارعين موسم الزرع فتنعدم الأقوات كذلك، لكن أثر الغرق كان أقل حدة من أثر الشرق لأن هناك إمكانية لزراعة بعض الأراضي المرتفعة التي لم تغرق أو يتم زراعة بعض المحاصيل بعد تراجع المياه في وقت ما من السنة.
2- كان يحدث أن تهب على البلاد بعض العواصف الترابية فكان ذلك يؤدي إلى إفساد لكثير من المحاصيل الزراعية، ويزيد الأمر بأن يعقب تلك العواصف والريح بعض الأمراض مثل الحميات، وهذه الحوادث لم تكن كثيرة مثل حالة النيل السنوية، ومما تذكره كتب التاريخ ويذكره المقريزي ما حدث في عام 695ه/1295م في عهد السلطان العادل كُتبغا، حيث هبت رياح سوداء مظلمة من نحو بلاد برقة هبوبًا عاصفًا، وحملت ترابًا أصفر كسا زروع تلك البلاد، فهافت أي عطشت كلها ولم يكن بها إذ ذاك إلا زرع قليل، ففسدت بأجمعها، وعمت تلك الريح والتراب إقليم البحير والغربية والشرقي ومرت على الصعيد الأعلى فهاف الزرع، وفسد الصيفي من الزرع، كالأرز والسمسم والقلقاس وقصب السكر، وسائر ما يزرع على السواقي فتزايدت الأسعار، وأعقبت تلك الريح أمراض وحميات عمت سائر الناس.
العوامل البشرية:
1- الفساد، وقد دب هذا الأمر في أركان الدولة بعد أن أصبحت المناصب الدينية والإدارية لا يصل إليها إلا بالرشوة؛ وقد عدد المقريزي هذه المناصب فكان هناك الوزارة والقضاء ونيابة الإقليم، وولاية الحسبة، وسائر الأعمال، ومن خلال الرشوة تخطى كل جاهل ومفسد وظالم وباغي إلا ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة.
2- حدوث الاضطرابات والفتن بسبب الصراع على السلطة والحكم، ونتج عن ذلك كثير من الثورات وانتشر الزعار وقطاع الطرق، فخيفت السبل وتعذر الوصول للبلاد، الأمر الذي أدى لصعوبة نقل الأقوات من مكان لآخر.
3-  غلاء الأطيان وما تعرض له المزارعون من زيادة في كلفة الأرض من أجل أن يزيد مال أصحاب الإقطاعات، وكلفوهم ما لا يطيقون في إقامة الجسور وحفر الترع، فمات كثير منهم وتشردوا في البلاد فانحط أمر الزراعة وهلكت الدواب وعجز أرباب الأراضي عن زراعتها.
4- رواج الفلوس فبعد أن كانت المعاملة عن طريق الذهب والفضة منذ القدم حتى عهد الدولة الأيوبية، أمر الكامل الأيوبي بضرب الفلوس وذلك كي يتم التعامل فيها في المبيعات المحقرات التي تقل عن درهم أو جزء منه، وكثرت حتى دخلها الغش، وكان الدرهم الكاملي يقسم إلى ثمانية وأربعين فلس والفلس لأربع قطع تقام كل قطعة مقام فلس، ومع سوء الأحوال السياسية وطمع الولاة والحكام اتجهوا لضرب الفلوس وتزييفها إما وزنًا أو من خلال المعادن المضروبة منها وهي النحاس.
طرق علاج هذه الأزمات:
أشار المقريزي إلى واحدة من الوسائل والطرق التي يمكن بها علاج تلك الأزمات وكان في مقدمتها ضرورة العودة إلى استخدام النقد الشرعي المتمثل في الذهب والفضة مرة أخرى، لأن هذا الأمر به صلاح العباد والبلاد، ويبدو أنه لم يكن قادرًا على البوح بما هو أكثر من القول بالفساد ولم يدع إلى الرجوع لأهل الحل والعقد من العلماء وأن يترفع السلاطين عن قبول الرشى ووضع الوضعاء في مناصب السادة.
ويتضح بجلاء أن كثير من الغلوات والأزمات التي حدثت في مصر كان سببها الجشع الناتج عن بعض التجار الذين استغلوا الأزمات، وكذلك بعض السلاطين الذين احتكر بعضهم بعض السلع وتاجر في أقوات الناس، الأمر الذي يعني أن الغلال والأطعمة موجودة لكنها كانت في المخازن مغلق عليها كي يحقق ملاكها المكسب الكبير على حساب الفقراء والمساكين، وظهر ذلك بوضوح حينما أجبر التجار على فتح المخازن وإخراج الغلال منها في وقت أزمة الحاكم بأمر الله والمستنصر بالله، والآمر بأحكام الله، قد انحلت الأمور بعد أن أجبر التجار على إخراج ما لديهم من غلال في مخازنهم، كما أن العادل كتبغا أطلق للفقراء شيئًا من الغلال وقسم الفقراء على ارباب الأموال، وأخذ منهم 12 ألف وجعلهم في مناخ القصر ،وأفاض عليهم القوت، وكذلك فعل جميع الأمراء وأرباب السعة والثراء. وكانت عاقبة هؤلاء الذين تاجروا في حياة المصريين سيئة فإن كل ما جمعوه من مال قد ضاع أمامهم في لحظات بأن احترقت بيوتهم، أو وجدوه في أنفسهم أو أهلهم بالمرض الذي لحق بهم.
هذا ملخص بسيط لأحد كتب المقريزي التي ألفها في ليلة واحدة من ليالي شهر المحرم لعام 808ه بعد أن عانى من وفاة ابنته في طاعون عام 806ه والذي كان ضمن أحداث الغلوات التي مرت على مصر وامتدت لست سنوات متتالية، أسال الله ان يوفقني لأكمل الحديث عن تلك الغلوات في مقال آخر، كما أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يديم على مصرنا الحبيبة نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يرحمنا ويقينا شر تلك الأزمات والغلوات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"