المدن الكبرى في المنطقة العربية عبر التاريخ



المدن الكبرى في المنطقة العربية عبر التاريخ
تصدرت الكثير من المدن الواقعة في منطقة الوطن العربي مكان الصدارة منذ فجر التاريخ، فقد كانت تمثل المدن الأولى والأكثر سكانًا في العالم المسكون وقتذاك، وهذه الصدارة ليست أمرًا عشوائيًا يشير إلى مجرد التجمع في نقطة ما ملائمة للسكنى، ولكنها تعني كذلك وجود حضاري من مستوى ما، حتى لو كان في نظرنا الحالي بدائي، أهل تلك المواضع والمواقع من أن تحتل المكانة الأولى خلال فترات تاريخية طويلة ومديدة، هذا ولم تقتصر مدن منطقة الوطن العربي على منطقة دون أخرى، لكنها امتدت عبر جناحيه الشرقي والغربي، وإن كان السبق الحضاري والتاريخي للجناح الشرقي. 
ظلت مدن المنطقة العربية موجودة بسكانها وحضارتها في المقدمة على مدى تسعة آلاف عام تقريبًا، منذ عام 7000 قبل الميلاد حتى المئوية الرابعة من الألفية الثانية للميلاد، تربعت مدن المنطقة خلال هذه الفترة مكان الصدارة في غالب تلك الفترة الزمنية أو تقاسمتها مع مدينة أخرى، ورغم تراجعها عن المركز الأول في بعض تلك الفترات فإنها كانت تعوض ذلك بطول مدة تواجدها زمنيًا في المقدمة، وهذا يدل على قوة المكون المادي والحضاري لمنطقتنا العربية وقدراتها الكامنة التي يمكن أن تؤهلها لاسترداد تلك المكانة، ولا أعني بذلك أن يصبح لمنطقتنا مدينة تحتل المركز الأول سكانًا، فهذا ليس وجاهة ولا سبيل للتغني به، فهو عبء تنوء به كثير من الدول الكبرى، مثل اليابان والهند وأندونيسيا والصين والبرازيل والولايات المتحدة، حضريًا وبيئيًا وأمنيًا، فما بالنا بمصر التي تأتي عاصمتها القاهرة في المركز السادس عشر في ترتيب  الأقاليم الحضرية الكبرى في العالم.
وهذا التقرير مستمد من ثلاثة مصادر "إيان موريس، وجورج مودليسكي، وتيرتيوس شانديلر" ومن الطبعي أن يكون هناك اختلاف بين المصادر الثلاث فكلٍ من وجهة نظره وما تيسر له من مادة علمية، اعتقد أن هذه المدينة أو تلك تستحق الصدارة خلال فترة زمنية ما. كذلك فإن الإقرار بهذا الحجم السكاني أمرًا ليس قاطعًا، فنحن الآن رغم تقدم فن الإحصاء وجمع البيانات والمعلومات نضع هامش خطأ في التعدادات التي تقوم الدول بإجراءها، فما بالنا بفترات تاريخية موغلة في القدم، ومن ثم فإن الأمر يقوم بشكل كبير حول تقديرات قد تصدق وقد تخطئ.
مدن ترجع إلى عصر الحضارة النطوفية في منطقة الشام
نبدأ مع الألفية السابعة قبل الميلاد حيث تظهر ثلاث مدن في حدود فلسطين والأردن الآن وهي مدينة أريحا في فلسطين بالضفة الغربية ومدينتي البيضاء وبسطة في الأردن، وكان سكان تلك المدن يتراوح بين 1000 إلى 2000 نسمة، وتعد مدينة أريحا الفلسطينية أقدم مدينة في التاريخ ويعود تاريخها إلى عام 10000 قبل الميلاد، وهذه المدن الثلاث تنتمي للحضارة النطوفية التي امتدت عبر مساحة واسعة عثر على آثارها فيما بين وادي النيل في مصر غربًا حتى وادي الفرات في العراق شرقًا، وكان الاستقرار ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان، الذي هو ثمة رئيسة للعصر النيوليثي أو العصر الحجري الحديث الممتد فيما بين 9000-4500قبل الميلاد، هو السبب الرئيس لظهور تلك المراكز العمرانية وتمتعها بهذا الحجم السكاني الكبير مقارنة بما كان عليه الحال من مجتمعات الصيد والترحال التي لا تعدو عدد من الأسر القليلة الأفراد.
بقايا مدينة أريحا أقدم مدن العالم

مع الألفية الرابعة قبل الميلاد تظهر ثلاث مدن في المنطقة العربية كذلك وهي "الوركاء وأريدو" في العراق ومدينة "تل براك" في شمال سوريا وقد تراوح عدد سكان تلك المدن ما بين 4000-5000 نسمة، وهو ضعف سكان المدن السابقة، حيث بداية الحضارات الزراعية الحقيقية خاصة في مدينتي الوركاء وأريدو حيث الحضارة السومرية، ويرى البعض أن مدينة الوركاء كانت أول مدينة متحضرة في التاريخ البشري ومن أوائل مدن العصر البرونزي، وتشتهر بأنها المدينة التي اخترعت فيها الكتابة وكانت أكبر مدينة في ذلك الوقت حيث كان طول محيطها يمتد لستة كيلومترات.
وفي الطريق إلى الألفية الثالثة ظلت مدينتي الوركاء وأريدو في الصدارة لعدة قرون حيث قدر سكان أوريدو فيما بين 6000-10000 نسمة عام 3700 ق.م لتترك الصدارة لمدينة الوركاء التي تضخم سكانهما بشكل كبير ليقدر بنحو 45000 نسمة في حدود عام 3000 ق.م، ولم تتخل مدينة الوركاء عن الصدارة كثيرًا لمدينتي أبيدوس وممفيس المصريتين إلا لفترة زمنية قصيرة فيما بين 3200-3100 ق.م، حيث قدر سكان كل منهما 20000 نسمة، وهو أمر طبعي فأبيدوس كما يجمع المؤرخين كانت عاصمة البلاد في عصر قبل الأسرة والعصر العتيق، حتى احتلت منها ممفيس "منف" تلك المكانة منذ عهد الأسرة الثالثة لتصل للقمة خلال عصر الأسرة السادسة، وقد قدر سكان ممفيس بنحو 30000 نسمة لتعد أكبر مدن العالم وقتذاك عند تشاليندر، ولكن المصدرين الآخرين يشيران إلى أن الوركاء تفوقت سكانًا ليتراوح سكانها بين 40000-45000 نسمة.
مدن العراق القديمة

وفيما بين عامي 3000-2000 ق. م. ظهرت عدة مدن في المنطقة العربية كان أكثرها في بلاد ما بين النهرين "العراق" حيث مدن "الوركاء، لجش، نيبور، جيرسو، أور، إيسن، لارسا، وأكاد" وفي سوريا مدينة "ماري" وفي مصر "ممفيس" وقد تراوحت تقديرات سكان تلك المدن ما بين 20000 إلى 80000 ألف نسمة، لكن لم يصل أي من تلك المدن إلى الحجم السكاني لمدينة أور عاصمة الدولة السومرية في عام 2100 ق.م حيث قدر سكانها بنحو 100000نسمة، وفيها ولد أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام.
مدينة منف الشهيرة بممفيس
ويلاحظ ثمة سيطرة مدنية من المنطقة العربية على مدن العالم الأكثر حجما وذلك خلال الألف الثانية قبل الميلاد ففي سوريا هناك مدينة "ماري" وفي العراق كانت هناك مدن " الوركاء، لجش، نيبور، جيرسو، أور، إيسن، لارسا، وأكاد، بابليون" وقد احتلت بابليون مكان الصدارة في عام 1000ق.م بحجم سكاني قدر بنحو 100000 ألف نسمة، ولكن هذا لا يعني أنها كانت أكبر المدن سكانًا خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة فقد بلغ سكان بعض المدن في تلك الفترة نحو 160000 نسمة، وذلك في مدينة "برـ رمسيس"، بمحافظة الشرقية الآن، عاصمة مصر في عهد رمسيس الثاني أحد ملوك الأسرة ال19، وإلى جانب بر رمسيس كان هناك مدن "طيبة، عاصمة مصر في عهد الاسرة ال11، وكذلك خلال الأسرة الـ18 عهد الدولة الحديثة، وقدر سكانها نحو 100000 نسمة في حدود عام 1300ق.م.، وكذلك هناك مدينة "آواريس" عاصمة مصر في عصر الهكسوس التي قُدر سكانها بنحو 100000 نسمة، في عام 1600 ق.م. وهو دليل كبير على أنها لم تكن مجرد مدينة لغزاة.
طيبة، أفاريس، أبيدوس، بعض العواصم المصرية ومن أكبر المدن تاريخيًا
وخلال الألف الأول قبل الميلاد كانت مدن العراق حاضرة بحجم سكاني ليس بالضئيل فهناك مدينة نينوى عاصمة الدولة الآشورية وأكبر مدن العالم في حدود عام 700 ق.م. بحجم سكاني قُدر بنحو 100000 نسمة، وكذلك مدينة بابليون التي قدر سكانها بنحو 200000 في حدود عام 500ق.م، وفي عام 300ق.م كانت العالم على موعد مع مدينة قرطاج الفينيقية في تونس لتضرب بقوة محققة رقم غير مسبوق في عام 300ق.م بحجم سكاني قُدر بنحو نصف مليون نسمة لتصبح أكبر مدينة في العالم وقتذاك، ومع ظهور مدينة الإسكندرية الإغريقية في مصر تم تنحية جميع تلك المدن جانبًا بحجمها السكاني الذي قُدر بنحو 600000 نسمة في عام 200ق.م ومع عام 100ق.م. كانت مدينة الإسكندرية أول مدينة مليونية في التاريخ.
مدينة الإسكندرية أول مدينة مليونية في التاريخ البشري
ومع الألف الأول الميلاد ظهرت المدن العراقية بقوة فقد كان هناك مدينة "قطيسفون" تلك المدينة الساسانية التي قُدر سكانها في عام 600م بنحو نصف مليون نسمة، ومدينة بغداد عاصمة الدولة العباسية التي تخطت رقم المليون نسمة بنحو مائة ألف مع بداية القرن التاسع الميلادي، كذلك تم الإشارة إلى مدينة "قرطبة" عاصمة الخلافة الأموية في بلاد الأندلس مع مجئ عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، حيث قدر سكانها في عام 935م بنحو 450000 نسمة.
مدينة بغداد العباسية عاصمة العالم الإسلامي
وقد ظلت مدينة بغداد عاصمة الدولة العباسية محافظة على مكان الصدارة بحجم سكاني قُدر بنحو 1200000 نسمة وذلك في عام 1100م، وكانت بغداد المدينة المليونية الوحيدة في المنطقة العربية حتى نهاية فترة وجود المدن العربية ضمن المدن الكبرى خلال التاريخ المدني، وخلال تلك الفترة ظهرت مدينة فاس المغربية بحجم سكان بلغ 200000 نسمة فقط وذلك خلال عام 1170م، كذلك ظهرت مدينة القاهرة في عصر دولة المماليك في حدود عام 1300 بحجم سكاني لم يزد عن نصف مليون نسمة، لتغلق مدينة القاهرة القرن الرابع الميلادي في الألفية الثانية باعتبارها آخر مدن المنطقة العربية حضورًا ضمن قائمة أكبر المدن في العالم.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"