الحاج خليل عفيفي .... وجثمان محمد فريد

الحاج خليل عفيفي
في الخامس عشر من شهر نوفمبر عام 1919 جلس الحاج خليل عفيفي تاجر القماش الشهير في بلدة الزقازيق بمديرية الشرقية يقرأ في جرائد ذلك الصباح ليطالع وفاة زعيم الحركة الوطنية السيد محمد فريد الذي آثر أن يضحي بثروته ومنصبه المريح من أجل القضية المصرية قضية كل مخلص لهذا الوطن، أكمل طريق الجهاد والفداء في سبيل الوطن بعد وفاة صديقه "مصطفى كامل" في ريعان شبابه فتعرض للسجن والاعتقال ثم آثر النفي على أن يظل سجينًا فتسجن قضية وطنه آثر العيش في دول أوربا يعاني الغربة والحرمان في مقابل أن يظل صوته عاليًا خفاقًا باسم دولته ومطالبًا بحريتها من براثن الاحتلال البريطاني.
لكن أي مقابل حصل عليه هذا الرجل الذي كان له أن يعيش في رغد من الحياة وبحبوحة لو سكت كغيره ممن سكتوا بل ولانفتحت أمامه أبواب السلطة يغترف منها كما يشاء لو صادق اللورد كرومر أو إدعى كذبًا أنه لا تقدم لمصر وللمصريين إلا بالاعتماد على بريطانيا صانعة الأمجاد والشعوب والدول.
ذهل الحاج خليل عفيفي وهو يطالع الأخبار التي تواترت بشأن جثمان الفقيد المسجى في واحدة من كنائش مدينة برلين لا تجد من يحنوا عليه لينقله إلى تراب وطنه، طاف بذهن الرجل بالتأكيد وتساءل هل تمت الصلاة على الرجل كمسلم؟ هل نسيه الخديو السابق عباس حلمي الثاني وهو الذي ظل وفيًا له ولقضيته ضد الاحتلال وظل إلى جواره حتى فضل الخديو على أن ينهي مطالبه مقابل الحصول على مستحقاته المالية ويضمن حياته بهدوء متنقلًا آمنًا على نفسه وماله وأهله في أرجاء دول أوربا المختلفة.
بالتأكيد لعله تساءل أيضًا عن سر عدم ذهاب الوفد المصري الذي كان في فرنسا في تلك الفترة برئاسة سعد زغلول باشا للصلاة على الفقيد، ولماذا لم يسارعوا للمطالبة بنقل جثمان الفقيد والزعيم الوطني إلى بلده ولو على حساب الشعب من خلال اكتتاب خاص لنقل رفاته لتدفن في تراب وطنه!! لقد مات محمد فريد فقيرًا أو كان قريبًا من هذا وأسرته لم يكن لديها ما تملكه لتبيعه لاسترداد جثمانه، بل إن الفقيد كتب في وصيته «لقد قضيت بعيدًا عن مصر سبع سنوات فإذا مت فضعوني في صندوق واحفظوه في مكان أمين حتى تتاح الفرصة لنقل جثتي إلى وطني العزيز الذي أفارقه وكنت أود أن أراه».
باع الحاج خليل عفيفي واحدة من ممتلكاته وسافر إلى ألمانيا بلدًا يجهل لغته ويجهل أين جثمان الفقيد إلى أن قيد الله له بعض المصريين في ألمانيا وغيرها من دول أوربا فعلموا بأمره فشاركوه شرف هذا الجهاد ومن هؤلاء الدكتور عبد العزيز عمران وإسماعيل لبيب والتاجر المصري محمد سليمان، بذلك الجميع جهدهم لكنهم اصطدموا بقانون كان يمنع نقل رفات الموتى من ألمانيا، وكادت جهودهم تضيع سدى لولا أن كان القدر رحيمًا بهم وبالفقيد ففي ذلك الوقت سمحت ألمانيا لفرنسا بنقل جثمان أن الضباط لبلاده وهنا كان الطلب بالمعاملة بالمثل، وبالفعل حصلوا على ترخيص نقل رفات الزعيم وتنقلوا به من ألمانيا إلى النمسا ثم إلى إيطاليا وهناك ابحروا إلى الإسكندرية حتى وصل في 21 مايو 1920، ودفن الفقيد في مقابر السيدة نفيسة وبعدها بعام تقرر الجمع بين الصديقين محمد فريد ومصطفى كامل في ضريح واحد.
أما الحاج خليل عفيفي فقد حصل على نيشان الوطنية من الحكومة وعندما مات ودعه الجميع وعلى قبره وضعت قطعة من الرخام مكتوب عليها: : هذا قبر الوطني الصادق الوطنية المرحوم الحاج عفيفي ناقل جثة بطل مصر محمد فريد رحمه الله على شهداء مصر ورجالها وابطالها.
في النهاية نجد أنفسنا أمام رجل بسيط تقدم بشهامته وبساطته على كثير من اثرياء مصر قدم القليل لرجل وطني طالما ضحى بالكثير من أجل وطنه، محمد فريد والحاج خليل عفيفي كلاهما عاشقين لمصر وعشقهما لها من نوع خاص الأول ضحى بالراحة والمنصب والمال من أجل وطنه والثاني ضحى بتجارته من أجل إعادة جثمان فقيد الوطن، أحيانًا أتساءل أم يكن في مصر أمراء أثرياء ألم يكن بها باشوات بل إن منهم من زامل محمد فريد في سلك القضاء، ألم يكن في مصر في ذلك الوقت حكومة، ألم يكن سعد زغلول ملء السمع والبصر لكي يطالب أصغر معارفه من أن يدعو لاستعادة جثمان الفقيد؟ لقد فاق الحاج خليل عفيفي كل هؤلاء لأنه كان صادق وكان محبًا للوطن وللزعيم حب من نوع خاص.
ا




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"