موسى بن بك أو موزمبيق

لم يكتف الاستعمار الأوروبي بالقضاء على الحضارات التي كانت قائمة في الدول التي قام باحتلالها، أو استنزاف مواردها وثرواتها البشرية والطبيعية على حدٍ سواء، بل سعى إلى تغيير هوية الكثير من تلك الدول ومسخ شخصيتها التي تكونت على مر مئات السنين، فساهم في تدمير تلك الدول وتأخيرها ووسمها بالعالم الثالث أو العالم المتخلف، وهي من تلك التسميات والمسميات براء، وإن كان هناك من هو جدير بتلك التسمية فهم هؤلاء الأوروبيون الذين اوقعوا بتلك الدول والشعوب في بؤرة التخلف هذه بتدميرهم ذاتيًا وحضاريًا، ووأدهم بشريًا من خلال تجارة الرقيق التي تُعد أكبر ذنوب العالم الغربي والتي لم يتبرأ منها حتى الآن أو يعلن حتى أسفه على قيام أجدادهم بها، فكانت نزيفًا بشريًا وعقليًا انعكس على دول القارة وشعوبها بشكل كبير لا زالت تعاني منه حتى الآن.


ومن تلك الدول النماذج التي عانت من الاستعمار الأوروبي دولة موزمبيق، تلك الدول الإفريقية التي تقع في جنوب شرق قارة أفريقيا على ساحل المحيط الهندي، وتحدها دول تنزانيا من الشمال، ومالاوي وزامبيا من الشمال الغربي، وزيمبابوي من الغرب، وسوازي لاند وجنوب أفريقيا من الجنوب الغربي، كما تقع إلى الشمال الشرقي منها في مياه المحيط الهندي دولة جزر القمر، وتفصلها قناة موزمبيق عن جزيرة مدغشقر. تعرضت دولة موزمبيق للاحتلال البرتغالي في بداية القرن السادس عشر، مع سيطرة البرتغاليين على جزيرة موزمبيق وميناء سوفالا في عام 1505، بعد أن استطاعوا استغلال الصراع بين حاكم سوفالا الشيخ ايسوف "يوسف" مع الوزير الأمير إبراهيم الذي قتل السلطان الشرعي لإمارة كيلوة، شمال ساحل سوفالا، وتقع في دولة تنزانيا الآن، وقاموا بتوقيع معاهدة مع شيخ سوفالا والذي سمح لهم ببناء قلعة بجوار مدينة سوفالا، ليعطي بذلك للبرتغاليين بداية الانطلاق في السيطرة على أراضي موزمبيق والتي ظلت خاضعة للاحتلال البرتغالي حتى عام 1975.

ميناء سوفالا على الساحل السواحلي

كان الحضور العربي والإسلامي لافتًا في هذه المنطقة من الساحل الشرقي للقارة الإفريقية، وذلك منذ القرن الثامن الميلادي، وتشير الأدلة الأثرية على ازدهار مدينة إسلامية في جزيرة ماندا مع حلول القرن العاشر، وقد ذكر الرحالة بن بطوطة في عام 1331م أثناء زيارته للساحل السواحلي الكثير عن وجود إسلامي قوي، وأن أهل هذا الساحل أتقياء ولديهم مساجد خشبية حسنة البناء. وقد انتشر الإسلام في هذا الساحل السواحلي الذي يمتد على طول كل من سواحل كينيا وتنزانيا وموزمبيق الآن من خلال تفاعل التجار المسلمون مع أهل هذه المناطق الساحلية، وبالرغم من أن الوجود الإسلامي كان هامشيًا في تلك الفترة على العكس مما كان عليه الوضع في غرب القارة الإفريقية، فإنه مع مجيء الاحتلال الأوروبي تمكن المسلمون من التوغل في الداخل وإقامة مراكز حضارية لهم. ومن بين الحكام الذين كانوا يحكمون بعض جزر موزمبيق، موسى بن بيك أو موسى بن بيق، أو موسى البيكي أو موسى بن مبيكي، أو موسى بن مالك، وكان حاكمًا لجزيرة موزمبيق قبل أن يحتلها البرتغاليون عام 1505 تقريبًا، وكان موسى بن بيك تاجرًا عربيًا، وسُميت الجزيرة باسمه، ومنها عُرفت الأراضي المقابلة للجزيرة بنفس الاسم، ومن ثم فإن اسم دولة موزمبيق هو اسم عربي، وهناك جامعة في مابوتو عاصمة موزمبيق تحمل اسم حاكم الجزيرة وتُسمى باسم "جامعة موسى بن بيكي" وقد تأسست عام 1998م.

كانت السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين على امتداد ساحل سوفالا عندما جاء البرتغاليون، وكانت المستوطنات العربية موجودة على طول الساحل الشرقي الأفريقي الذي عُرف بالساحل السواحلي منذ عدة قرون، وقد أتى على ذكرها المؤرخ الشهير المسعودي (896 -957م)، وتحدث عن الوجود الإسلامي القوي في المنطقة، وثمة أسطورة تعود بالوجود الإسلامي في منطقة الساحل السواحلي إلى "علي بن الحسن الشيرازي"، الذي أسس سلطنة كيلوة في القرن العاشر الميلادي، وهو أحد أبناء الأمير حسن الشيرازي السبعة وأُّمه الحبشية، وقد طُرد من قِبل أخوته بسبب الميراث، الأمر الذي دفعه للهجرة بحرًا إلى الصومال لكنه لم يتوافق مع النخبة الصومالية في مقديشو، فأكمل المسيرة نحو جزيرة كيلوا واشتراها من حاكمها من سكان البانتو، والقصة وإن كانت أسطورية نوعًا ما إلا أنها تسعى لربط أواصر العلاقة بين المسلمين والأهالي من خلال تلك العلاقات التعاقدية والتجارية والتي كانت بداية لعلاقات أسرية وروابط نسب ومصاهرة.

الموانئ والمراكز الحضرية على الساحل السواحلي

لا شك أن الاحتلال الأوروبي ساهم في زعزعة الوجود العربي والإسلامي في منطقة الساحل الشرقي لقارة أفريقيا خاصة في هذه المنطقة التي تنتمي لثقافة البانتو، وقد ساهم الاحتلال الأوروبي في تراجع الوجود الإسلامي والعربي بالمنطقة، خاصة وأن وجودهم لم يكن مجرد وجود تجاري أو اقتصادي لكنه كان وجود سياسي، ولم يكتف الاستعمار الأوروبي في الحد من الانتشار الإسلامي واللغة العربية في منطقة الساحل والداخل فحسب، بل إنهم عملوا على نشر لغاتهم الأوروبية وكذلك التبشير بالديانة المسيحية التي تمثل الأغلبية الآن بين سكان دول كينيا، وتنزانيا، وموزمبيق، ومدغشقر. كان التجار العرب والمسلمون قد استطاعوا أن يخترقوا ثقافة البانتو من خلال بناء نظام اجتماعي وثقافي جديد وهو "الهوية السواحلية" التي تتمحور حول أي شخص أفريقي، يتحدث اللغة السواحلية كلغة أولى، وهي لغة هجين من الكثير من اللغات في مقدمتها اللغة العربية، وهو مسلم ويعيش في بلدة تقع في واحدة من المراكز الحضرية الرئيسة في كل من تنزانيا، كينيا، جزر القمر، موزمبيق، مدغشقر، والاسم المحلي للسواحلية يعني "المتحضرون"، وهو مؤشر على التأثير الثقافي للإسلام الذي أثر فيهم وجعلهم صفوة في المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن ثم فإن سبيل الارتقاء كان الانضمام لهذا المجتمع.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"