إدارة الشئون البلدية في المدينة العربية



إدارة الشئون البلدية بالمدينة العربية
في العصور الوسطى
مما لا شك فيه أن المدينة العربية هي امتداد لما سبقها من مدن العصور التاريخية الممتدة على أرض منطقتنا العربية، مع الأخذ في الاعتبار وجود مدن جديدة ذات نشأة مرتبطة بالوجود العربي في المناطق التي قاموا بافتتاحها، فهناك مدن دمشق والإسكندرية ومراكش والقدس إلى جانب القاهرة وتونس والجزائر وفاس.
انعكس أثر الاندفاعة الكبرى للمسلمين وحضارتهم العربية على مدن المنطقة العربية سواء كانت قديمة أو ذات نشأة حديثة، بل إن ظهور تلك المدن الجديدة هي دليل أكبر على ذلك التأثير الحضاري والبشري للإسلام على المنطقة بأكملها، فقد كان توطيد الأمن والسلم في المنطقة العربية في ظل الإسلام دينًا وحضارة له أكبر الأثر على النمو العمراني للمدن والقرى الجديدة والقديمة على السواء، وقد ساعد توافر الأمن انتقال بشري ليس بقليل بين أرجاء وأقاليم المنطقة العربية شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، معتمدًا على تلك الوحدة السياسية والعقائدية التي تحكم المنطقة العربية بل وتتسع لتشمل الكثير من ارجاء العالم الإسلامي الممتد في ذلك الوقت إلى وراء بلاد الرافدين نحو حدود الصين شرقًا والعديد من جزر البحر المتوسط بل لتعبره إلى ما عُرف بالأندلس في جنوب غرب أوربا ومتتبعًا مسالك الكثير من الدروب الصحراوية إلى قلب الصحراء الكبرى الأفريقية.
سبيل أم عباس
وقد ارتبط هذا الانتقال البشري بدوافع عدة منها السفر والانتقال إلى مناطق وبلاد جديدة لبدء صفحة حياتية جديدة، ومنها النشاط الاقتصادي والتجارة ومنها الرغبة في تأدية شعيرة الحج التي كانت تمثل حجمًا بشريًا هائلًا في فترة زمنية قصيرة، وكان جزء كبير من تلك الأفواج البشرية لا يعود إلى موطنه مرة أخرى ويستقر في المدن الواقعة على طريق حجه لعوامل ودوافع عديدة منها طلب العلم، أو المجاورة للمدن المقدسة.
في ظل هذه النقلة البشرية والحضارية الكبيرة للمنطقة العربية كان من الطبيعي أن ينعكس أثرها على مدنها القديمة أو الحديثة على السواء، وكان لابد من وجود تنظيم إداري وهيئات تتولى الإشراف على التنظيم السكني والعمراني لتلك المدن، والعمل على الحفاظ على أمنها ونموها وتهيئة الظروف الملائمة لاستمرارها وبقاءها تؤدي دورها الوظيفي سواء كان السكنى أو السياسي أو الاقتصادي وكذلك العسكري.
سبيل محمد علي بالنحاسين
ولعل التنوع الإشرافي على حياة المدينة العربية كان سمة واضحة وبارزة خلال تلك الفترة، ويرجع ذلك إلى تعدد الوظائف الإدارية المدنية ومن ثم كان لكل منها ارتباط بشأن مدني واضح مرتبط بحياة المدينة، فقد كانت السلطة السياسية الممثلة في الباشا لها دور كبير في حياة المدينة بما يصدره من قرارات للحفاظ على نظافة شوارع المدينة، وهناك المحتسب وكان له صلاحيات وسلطات واسعة حيث الإشراف على الأسواق ومراقبة الموازين والمقاييس والأسعار ومعالجة الشئون الحضرية، وكان والي المدينة يشرف على مكافحة الحرائق ومراقبة الطوائف المذمومة، ومتابعة الأمور المتعلقة بإصلاح البيوت ونظافة وصيانة المباني، كما كان للقضاة دورهم في وضع الضوابط اللازمة للتأكد من سلامة المباني واتساع الشوارع لعدم الحيلولة دون مرور العسكري الممتطي لحصانه أو الجمل المحمل، وكذلك على الاعتداء على حقق الجيران في الحصول على الضوء والرؤية.
حمام اينال
كذلك كان للطوائف المهنية والدينية دورً في حفظ النظام والأمن المدني فمدينة القاهرة التي كانت تضم 250 طائفة مهنية فإن أفراد تلك الطوائف ذات العدد الضخم كان لهم دور في إدارة شئون المدينة والربط بين السلطة السياسية وبين سكان المدينة، كذلك فإن شيوخ الطوائف الدينية يقوم بإدارة وصيانة أمور الطائفة ودور عبادتها وجباية الضرائب من أفرادها وتوزيع الإعانات على الفقراء والمرضى وتحقيق الاتصال بين الجالية والدولة، كذلك فإن الأحياء وشيوخها كان لهم دورًا إداريًا واضحًا من حيث المشاركة في الاعمال التطوعية أو جمع الضرائب من سكان الحي وشرح أوامر السلطة للسكان.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن السلطة السياسية المركزية العليا كان لها العديد من القرارات التي كان الغرض منها الحفاظ على المدينة مثل إقامة المذابح خارج المدينة للحفاظ على المدينة نظيفة وخالية من التلوث وإصلاح وترميم الحمامات والأسبلة ومنع الاختلاط بين الجنسين في الحدائق، وتوسعة الكثير من مداخل الأسواق، ونقل بعض الحرف المسببة للضوضاء أو التلوث البيئ خارج المدينة، مثل صناعة الجلود على سبيل المثال.
كان ضمان بقاء واستمرار المدينة العربية يقوم على ضرورة وجود "الخدمات العامة" التي تقوم بتوفير احتياجات السكان سواء من ماء وطعام ونظافة، وقد ركز "ريمون" في دراسته على مدينة القاهرة لأنها كانت الأوفر حظًا من حيث وفرة المصادر الخاصة بها لتتبع تلك الخدمات، وكانت مدينة القاهرة، في فترة دراسة المؤلف، ثاني أكبر مدن الدولة العثمانية سكانًا، وكانت مساحتها تزيد عن 800 هكتار (2000 فدان = 8.4 كم مربع)، ويمكن التعرف على أهم الخدمات العامة فيما يلي.
1-      تنظيف المدينة:
كانت مهمة تنظيف المدينة توكل على بعض الطوائف "الكناسون المحترفون" الذين يحصلون على أجر من سكان المنازل لقاء نقل القمامة من بيوتهم وأحيائهم إلى خارج أسوار المدينة، كذلك كان هناك "الترابون" المتخصصون في نقل الأتربة والفضلات، ويلاحظ حرص السلطة الحاكمة على عدم تراكم الأتربة في الشوارع ويأمرون بإزالتها كما حدث في القاهرة أعوام 1609، 1700، 103، 1711، وقد تم إزالة أتربة متراكمة من شوارع القاهرة في بعض الحالات بلغ سمكها ذراع، كذلك كان هناك قنوات تخترق بعض المدن العربية لتصريف المياه القذرة وتلقي بها في البحر كحال مدينة الجزائر أو البحيرة كما في تونس، أو يلقى بها مباشرة إلى الخليج الذي يخترق مدينة القاهرة والذي انتهى به الحال إلى مجرى ضيق جراء ما كان يلقى به من قاذورات، وكان نصيب شوارع المدينة وأحيائها يختلف من منطقة لأخرى، لكن يبقى أن المدن العربية لم يختلف الوضع فيها عن المدن الغربية وقتذاك.
2-      إنارة الشوارع:
وهو تقليد قديم في مدينة القاهرة وكانت الإنارة تتم باستخدام طائفة تعرف باسم "القنديلجيان" وكانت تضم 200 فرد، والمنتفع بالإضاءة كان هو الذي يقوم بتكلفة الإنارة، وفي الأسبلة الخاصة مثل سبيل عبد الرحمن كتخدا الذي شيد عام 1744 خصص صاحب الوقف نفقات سنوية لإنارته بلغت 180 بارة (أي 4.5 قرش) كثمن للزيت والقنديل، وكان هناك إلزام على الأهالي بحمل قناديل أو مشاعل أثناء تحركهم ليلًا، الأمر الذي قلل من مشاكل الإنارة بالمدينة ليلًا.
3-      مكافحة الحرائق:
والحرائق من الأمور النادرة في المدن العربية لأن مواد بنائها المعتمدة على الطوب اللبن والحجر والقرميد لم تكن تساعد على الاشتعال، والخشب كان نادر الاستخدام إلا في الأسقف، وكانت معظم الحرائق تحدث في الأسواق حيث توجد المواد الميسرة للحرائق، كحريق حي الصناديقيين، والبندقانيين حيث تجار البارود، ويعد تنظيم مكافحة الحرائق في القاهرة قديم حيث تحدث المقريزي عام 1440 عن رئيس رقباء البصاصة الذي عرف باسم "والي الطواف" يقف في مدخل سوق الجمالون ومعه معاونيه من السقائين والكسارين والهدامين المعينين بالمناوبة لمواجهة حدوث أي حرائق.
4-      وسائل النقل في المدينة:
وكان اتساع القاهرة وامتدادها لمسافة خمسة كيلومترات من الشمال والجنوب وكيلومترين ونصف من الشرق الغرب أن استلزم وجود وسائل للنقل، وكانت الحمير الوسيلة الأساسية ووجد بالقاهرة 30 ألف مكاري يتوزعون على أربع طوائف ثلاثة لنقل الرجال والنساء وواحدة لنقل البضائع، وإلى جانب الحمير كان هناك الجمال وطائفتهم الجمالية، وكان المكاريون يتواجدون عند مداخل المدينة والشوارع الرئيسة، وقد استمتع جنود الحملة الفرنسية بركوب الحمير في شوارع القاهرة، وقد علق على ذلك الشيخ حسن العطار ببيت من الشعر:
إن الفرنسيين قد ضاعت دراهمهم                 في مصــــــرنا بيـن حمَّـــار وخمَّــــار.
الحمارون
5-      توصيل المياه:
من المشاكل التي كانت تحاصر المدن العربية فالأمطار محدودة في الغالب، وبعض المدن تقع بعيدًاعن الأنهار أو أنها ضعيفة الجريان وموسمية في حالات أخرى، ورغم ذلك أمكن توفير المياه لسكان المدن، فالقاهرة البالغ سكانها 300 ألف تم توفير احتياجاتهم المائية عن طريق السقائين الذين قدرهم الرحالة التركي ايفليا شلبي بنحو 11900 عام 1660 يتوزعون على خمسة طوائف، أما الأسبلة التي تقوم بدور هام في تموين القاهرة بالمياه الصالحة للشرب،  فكانت تشيد باعتبارها من أعمال البر والتقوى، وتمكن المؤلف من تحديد مواقع عدد 308 سبيل، كانت تلك الأسبلة تتكلف الكثير فالتكاليف السنوية لسبيل عبد الرحمن كتخدا وهو أعظم الأسبلة في القاهرة عام 1744 قدرت بنحو 12645 بارة (316 قرش)، منها 7500 بارة (188 قرش) لشراء الماء، وفي ظل الظروف الطبيعية كان توفير المياه يتم بشكل سلس، لكن يصاب بالخلل أثناء الأزمات حيث الحملات العسكرية واستيلاء السلطة على الحمير والجمال، ويعد سبيل أم عباس من أهم الأسبلة التي تم بنائها كذلك في القاهرة في القرن التاسع عشر.
وفي دمشق كان نهر بردي مصدر المياه الرئيس عن طريق شبكة قنوات مائية جيدة، وفي حلب شيدت مشروعات مائية منذ عهد المماليك لتوفير حاجتها من المياه، وفي تونس زاد الاهتمام بمشاريع العهد الحفصي في عهد الحسنيين والمراديين. وتعتبر مدينة الجزائر هي المدينة التي أقام فيها الأتراك نظمًا للري لم تكن غير موجودة، وقد ساهم المعماري موسى الأندلسي في بناء عدد من تلك القنوات المائية، كما كانت الأسبلة كذلك وسيلة لتوفير المياه بالمدينة، ورغم أن المؤرخين لا يذكرون إلا دموية الحكام فإنهم يتناسبون تلك المشاريع التي كانت وسيلة لتوفير حاجيات السكان والعمل على راحتهم مثل الداي باب علي نكسيس (1754-1766)، فقد قام بتشييد 13 سبيل خلال فترة حكمة.
السقاء
وبهذا فعلى الرغم من عدم وجود خدمة عامة حقيقية فإنه عن طريق جهود مشتركة ممثلة في السلطة السياسية المركزية "الحكومة السلطانية" أو السلطات المحلية "الباشوات والطبقة الحاكمة" بالإضافة إلى جهود طائفة الحرفيين السقائون والرعاية الخيرية ممثلة في وقف الأسبلة، وبتلك الجهود أمكن توفير احتياجات سكان المدن من المياه بشكل طبيعي.
ولتوضيح الصورة بشكل كبير يمكنكم العودة إلى كتاب "أندريه ريمون" المترجم عن الفرنسية "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني" وهو كتاب رائع ومفيد على كافة الأصعدة التاريخية والجغرافية والعمرانية والاقتصادية للمدينة العربية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بن خلدون ونظرية النمو السكاني

اللامدرسية "التمدرس المنزلي" De Schooling

حجاج الخضري ... قائد أهالي الرميلة في حرب 1805 "الأهلية"